"الحرية لن تأتي بالمجان...أنت علمتنى أنه إذا أردنا أن نعيش أحرارا فعلينا أن ندفع ثمن الحرية"...قالتها له زوجته الراقدة على سرير المستشفى وقد احتضنت يداها وجهه الأسمر ماسحة دمعة سالت من عينه وهو يقول لها:" أنا لا أخاف أن أقتل فأنا أؤمن أن الله قدد حدد لموتى موعدا محددا...لا أخاف الموت ولكن ما يؤلمنى أننى بعد مظاهرة اليوم سأكون معتقلا ولن أستطيع أن أكون بجانبك يوم الولادة أو أن أحمل طفلى فى أول يوم فى حياته". قطع حديثهما طرقات على باب الغرفة ليدخل صديق الرجل وقد ظهرت عليه علامات الغضب قائلا:"آسف للإزعاج يا صديقى ولكنى أردت أن أخبرك أن الشرطة أعلنت فى كل أرجاء المدينة أنها ستواجه أية مظاهرة بيد من حديد وأن القانون يسمح لها باستعمال الرصاص الحى ضد من يتظاهر أو من لا يمتثل لأوامر الشرطة فى ذلك اليوم".
خرج الرجل من المستشفى تاركا زوجته ليركب الحافلة مع مجموعة من أصدقائه متجهين إلى مكان المظاهرة...لم يوهن من عزيمته التهديد بالقتل أو الإعتقال...لم توقفه ظروفه العائلية الطارئة ولا أنه سيغيب عن زوجته الحبيبة فى يوم تحتاج فيه كل امرأة لرجل يقف بجوارها وهى تلد ابنه...لا يمكنه التراجع الآن...فلقد عاش لسنوات يبشر شعبه المقهور بـ(حلم) الحرية وآن الأوان أن تتحول كلماته لأفعال...آن الأوان أن يدفع جزءا من فاتورة الحرية التى لا تأتى بالمجان.
انهالت الشرطة على المتظاهرين العزل بالعصى والرصاصات المطاطية والقنابل المسيلة للدموع...أطلقت الكلاب البوليسية لتنهش فى لحم المتظاهرين وتطاردهم فى الشوارع الجانبية...أصيب المئات واعتقلت الشرطة المئات...وجد الرجل نفسه معتقلا فى سجن المدينة...لم تهمه جراحه التى أصابته أثناء اعتداءات الشرطة على المظاهرة فكل تركيزه كان منصبا على محاولة الإتصال والإطمئنان على زوجته...طلب من الضابط أن يسمح له بالإتصال بزوجته فإذا بالضابط يسبه ويسخر منه ومن زوجته ويقول له بتشف "لن ترى زوجتك مرة أخرى،فنحن سنقتلك أو نبقيك سجينا مدى الحياة حتى تتعلم الدرس".
ولكن لأن هناك فردا واحدا هو الذي يقرر مصيرنا كلنا،وهو وحده الذي يحدد من سيسجن ومن سيموت ومتى، وهو الله الفرد الصمد سبحانه وتعالى وليس السجان، قدر الله للرجل أن يخرج من السجن فى ولاية ألاباما الأمريكية فى عام 1963 ليعود ليحتضن زوجته وابنه حديث الولادة ويعود لقيادة شعبه مرة أخرى نحو الحرية التى طالما حلم بها.
هذا الرجل هو مارتن لوثر كنج، رجل الدين الأسود الذي عرف أن الله أنزل الرسالات ليعيش الناس أحرارا، وأن مهمة رجل الدين الأولى أن يساهم فى تحرير شعبه ورفع الظلم عنهم. فلم يقبع ذلك الرجل داخل أروقة كنيسته طالبا من المصلين الدعاء إلى الله بأن يحررهم وأن يحقق لهم العدل بمعجزة أو أن "يهلك الظالمين بالظالمين ويخرجهم من بينهم سالمين"،ولم يخدع هذا الرجل شعبه بكلام حق يراد به باطل من طراز "لو رجعنا إلى الله لتحررنا فلا تتكلموا فى السياسة"، ولكنه كان أول من نزل إلى الشارع مطالبا بالحرية التى يؤمن أن الله كفلها لكل انسان بغض النظر عن لونه أو ديانته أو جنسه.
كان تدين مارتن لوثر كنج طاقة ايجابية تنطلق فى خط مستقيم نحو الكفاح لنيل الحق والحرية والعدل لا يوقفها تبريرات ايمانية عن فضل الصبر على الأحوال السيئة أو تخديرات فلسفسية على شاكلة "كما تكونوا يولى عليكم" . رأت عينا كنج الحقيقة دون رتوش...رأى شعبا قد سرقت منه حقوقه المشروعة...رأى شعبا لا يختار من يمثله فى الإنتخابات ولا يمكنه ممارسة أبسط حقوقه السياسية...رأى شعبا تقهره الشرطة العنصرية فى الشوارع بسبب وبدون سبب لا لشئ إلا لقهر روح التمرد والكرامة داخله...رأى شعبا تسرق ثرواته بينما يمن عليه اللصوص بالفتات الذي يتساقط من على موائدهم...رأى شعبا يعيش منفيا على أرضه ووطنه...رأى شعبا يخطط الطغاة له أن يعيش فى ظلمات الجهل والتخلف لسنوات وسنوات...رأت عيناه كل هذا الظلم على أرض الواقع لكن قلبه كان يرى حلما جميلا يؤمن أنه سيتحقق عاجلا أو آجلا.
كان السجان على حق...فلقد تعلم مارتن لوثر كينج الدرس جيدا فى سجن ألاباما...كان الدرس الذي تعلمه أن عزيمة الأحرار أقوى من أسلحة الشرطة العنصرية وأن قامة الأحرار أطول من أسوار السجن وأنه إذا كان الله معك فمن عليك؟... شهور قليلة كانت تفصل بين خروج مارثن لوثر كنج من سجنه فى ألاباما وبين وقوفه فى أكبر ميدان فى العاصمة الأمريكية واشنطن وقد زحف الآلاف من كل أنحاء أمريكا من كل الألوان والأجناس من الشباب والشيوخ مستجيبين لدعوته التى أطلقها لتنظيم أكبر مظاهرة فى تاريخ أمريكا. وقف كنج خطيبا فى الآلاف الذين ضاقت بهم شوارع العاصمة وانضمت لهم أعداد كبيرة من ضباط وعساكر الشرطة المحبين للعدل والحرية والذين استيقظت ضمائرهم وأقسموا أنهم لن يقمعوا أية مظاهرة سلمية تطالب بالحرية مرة أخرى حتى لو تسبب ذلك فى فصلهم من الخدمة.
وفى الشهر الماضى مرت الذكرى الـ47 لخطاب مارتن لوثر كنج الشهير فى هذه المظاهرة فى يوم 28 شهر أغسطس عام 1963 والذى قال فيه كلمته الشهيرة:"أنا عندي حلم"...نعم هذا هو كل ما كان يملكه مارتن لوثر كنج...الحلم...لم يكن يملك أسلحة أو أحزابا أو قنوات تليفزيونية...لم يكن يملك ملايين الدولارات ولا شركات كبرى...لم يكن يملك أجهزة أمنية أو أجهزة مخابرات أو ميليشيات عسكرية...كل ما كان يملكه هو هذا الحلم...الحلم بأن ينال شعبه الحرية والمساواة...الحلم أن ينعم هو و ابنه الرضيع بالعدل والحرية التى حرم منه آباؤه وأجداده.
نعم كان سلاحه الحلم ...لكن مارتن لوثر كنج لم يكن شخصا حالما فقط أو فيلسوفا فى برج عال...لقد كان قائدا عمليا...لقد أخذ حلمه إلى الشارع...ونذر حياته كلها لذلك الحلم...فلقد آمن أن الأحلام لا تتحقق إلا إذا ارتوت من عرق ودماء من يريد تحويلها لحقيقة.
عندما عاش مارتن لوثر كنج علمتنا حياته أن هناك طريقة واحدة يمكن بها أن نحول أحلامنا إلى حقيقة على أرض الواقع...وعندما قتل علمنا موته أن الأحلام التى سقاها صاحبها من دمه لا تموت أبدا بإذن الله. قتل كنج لكن حلمه عاش وتحقق بوصول أول رئيس اسود لمقعد الرئاسة فى تاريخ أمريكا...أمريكا التى كانت فى الستينيات تحرم على الرجل الأسود حتى مجرد دخول مراحيض البيض، يجلس الآن على سدة الحكم فيها رجل أسود اسمه حسين أوباما...والبداية كانت مجرد رجل ضعيف فقير كان لا يملك من القوة إلا قوة الحلم.
هناك الكثير الذي يمكن أن تتعلمه الشعوب المقهورة من قصة مارتن لوثر كينج، لكن الدرس الأكبر هو أن أحلام الشعوب المقهورة أقوى من القهر والطغيان...الحلم لا تقهره بندقية ولا تحجبه أسوار سجن...الأحلام المشروعة لا تموت وستتحقق يوما ما حتى لو مات أصحابها.