هي فتوى قانونية صدرت في صورة بيان صادر عن مجلس القضاء الأعلى،
جاء به { أولاً: أن التعليق علي أحكام القضاء في الصحف والمجلات مدحا أو قدحاً غير جائز بعامة. وإذا كان الحكم مطعوناً عليه بخاصة. إذ يعد في هذه الحالة ضرباً من ضروب التأثير في القضاة والتدخل في عملهم. الأمر الممتنع قانوناً بل والمعاقب عليه جنائياً.
وثانياً: أن القوانين تحظر التعليق علي الأحكام القضائية أو التعرض لها إلا بإحدي وسيلتين. الأولي : الطعن علي الحكم وتعييبه أمام محكمة الطعن والثانية : هي التعليق العلمي علي الأحكام. وهي وسيلة مشروطة بضوابط عديدة أهمها : أن يكون التعليق من متخصص. وأن يتناول حكماً استنفدت طرق الطعن عليه. تفادياً لمظنة التأثير علي قضاء الطعن. وألا يناقش التعليق إلا المباديء التي شيد عليها الحكم بناءه دون أدني تعرض للهيئة التي أصدرته أو التفتيش في خبايا النوايا أو مكنون الضمائر. وأن يتم التعليق من خلال مطبوعة قانونية متخصصة. وبغير هاتين الوسيلتين يحظر التعليق علي أحكام القضاء. ويضحي التعليق جريمة ويُوقع صاحبه تحت طائلة العقاب. خاصة إذا تجاوز للمساس بشخص القاضي والتعرض لأسرته وحرمة حياته الخاصة.}انتهى الإقتباس من البيان.
ونحن لا نتفق مطلقاً مع ما ورد ببيان المجلس الموقر من قيود وشروط للتعليق لا نرى لها سنداً من القانون فضلاً عما ذهب إليه من تجريم لمجرد التعليق على الاحكام القضائية حتى ولو لم يتضمن أي قذف أو سب او إهانة ، ونرى فيه افتئات على الحقوق الدستورية الراسخة التي كفلها الدستور كالحق في إبداء الرأي والتعبير والنقد البناء.
ولا نرى أي سند لإسباغ حصانة وأو تحريم أو تقديس لأعمال القضاة أو أشخاصهم.
فلا الأحكام القضائية تنزيلاً من السماء ولا قضاتنا الاجلاء هم آلهة او رسل معصومون ، وإنما هم بشر يصيبون ويخطئون ، فيرد على احكامهم ان تعتورها عيوب ناشئة عن اخطاء البشر، وما كانت تلك البديهية إلا السبب في جري انظمة التقاضي المتحضرة في العالم بأسره على تعدد درجات التقاضي لتصحيح اخطاء احكام الدرجات الادنى ، فهذا أمر بديهي مفترض .
ولئن كانت أحكام القانون والدستور ذاته لا تتأبي على النقد والتعليق ، فلا يعقل ان يكون التعليق على الأحكام او انتقاد القضاة محظور .
إن إصدار الاحكام القضائية ليس كهنوتاً يحظر على العامة الإقتراب منه بل هي إحدى الوظائف التي تمارسها إحدى سلطات الدولة ، التي يقرر دستورها في مادته الثالثة أن "السيادة للشعب وهو مصدر السلطات"، ومن ضمن تلك السلطات بالطبع السلطة القضائية ، كما ينص في مادته الثانية والسبعين أن الأحكام تصدر باسم الشعب ، و ذلك يعني ان الشعب هو الأصيل الذي تصدر الاحكام بإسمه ،وما قضاتنا الأفاضل إلا وكلاء عن الشعب في إصدار تلك الاحكام ، مما يستحيل معه طبقاً لأي فهم قانوني ان يحظر على الأصيل الرقابة والتعليق على الاعمال التي تصدر بإسمه..... وما كان مبدأ علانية المحاكمات والاحكام إلا تطبيقا لهذه البديهية التي تقضي برقابة الشعب على أعمال القضاء.... وغني عن البيان أن تلك الرقابة .. رقابة العلانية لا تشكل إي تقليل من مكانة القضاء والقضاة وإنما هي على العكس ، من اهم ضمانات الشفافية وترسيخ الشعور بالعدالة والثقة بالقضاء وأحكامه......
كما تنص المادة 47 من الدستور على أن " حرية الرأى مكفولة , ولكل إنسان التعبير عـن رأيه ونشره بالقـول أو الكتابة أو التصوير أو غير ذلك مـن وسائل التعبير فــى حـدود القانـون , والنقد الذاتى والنقد البناء ضمان لسلامة البناء الوطنى ."
نص الدستور هنا يكفل حرية الرأي والتعبير والتعليق بشكل عام ومطلق دون تخصيص او تقييد أو استثناء لأحكام المحاكم من ان تكون محلاً لممارسة حق التعبير والنقد ، وغني عن البيان أن الإستثناء او التخصيص لا يكون إلا بنص من ذات الدرجة أي بنص في الدستور.
وإذ تنص المادة 66 من الدستور على ان " العقوبة شخصية . ولا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون , ولا توقع عقوبة إلا بحكم قضائى , ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون ."
فإن تجريم الأفعال – طبقا لصريح نص الدستور - لا يكون بفتوى أو تصريح او بيان وإنما بقانون ، والحال أنه لا يوجد بقانون العقوبات أي نص قانوني يؤثم التعليق المجرد على الاحكام أو تناولها بالنقد الموضوعي البناء المكفول بالدستور دون استثناء ، سواء كانت تلك الاحكام إبتدائية او انتهائية او باتة. ، وإنما ورد التجريم في حالات محددة على سبيل الحصر ومنها الحالات المتعلقة بإهانة أو سب أو قذف للمحكمة او قضاتها ، وعليه فإنه طالما لا يوجد سب او قذف او إهانة مما هو منصوص عليه من جرائم على سبيل الحصر في قانون العقوبات.
، وطالما اقتصر الأمر في التعليق على سلامة التطبيق القانوني ووصف الحكم بأنه لم يصادف صحيح القانون أو أنه أخطأ دون اي تطاول أو تجريح لهيئة المحكمة ، فإن ذلك لا يشكل إي جريمة .....
اما ما يذهب إليه البيان من {أن التعليق على الاحكام بالصحف والمجلات غير جائز بعامة، وإذا كان الحكم مطعوناً عليه بخاصة. على قالة أن ذلك يعد ضرباً من ضروب التأثير في القضاة والتدخل في عملهم} ، فإن ذلك القول غير مقبول و مردود بانه لا يجوز ولا يستقيم ان ينسب لقضاتنا الأجلاء شبهة التأثر بما ينشر في اي من وسائل الإعلام ، لأن ذلك يطعن في سلامة ما يتوفر للقاضي من علم وإعداد وتهيئة وملكات شخصية تجعله عصياً على التأثر بأي مادة إعلامية وإلا كان مفتقداً لصلاحية القيام بوظيفة القضاء.. والأكثر من ذلك ما هو مقرر قانوناً من ان القاضي لا يصدر حكمه إلا مبنياً على ما هو ثابت باوراق الدعوى ، وأنه لا يجوز للقاضي ان يحكم بعلمه الشخصي.
نحن نتفق مع بعض ما ورد بالبيان من شروط وضوابط للتعليق على الأحكام منها أن يكون التعليق من متخصص، وألا يناقش التعليق إلا المباديء التي شيد عليها الحكم بناءه دون أدني تعرض للهيئة التي أصدرته أو التفتيش في خبايا النوايا أو مكنون الضمائر.
إلا اننا لا نرى أي اساس لإشتراط أن يكون الحكم مما استنفدت طرق الطعن عليه. تفادياً لمظنة التأثير علي قضاء الطعن ، إذ اننا – كما تقدم - ننزه قضاتنا الأجلاء عن شبهة التأثر بما ينشر بأي وسيلة ، وإلا لجاز تحريم المرافعات القضائية الشفوية والمكتوبة أيضاً خشية أن يتأثر بها القضاة في قضائهم!!!؟؟
كذلك لا نرى أيضاً أي اساس لإشتراط أن يتم التعليق من خلال مطبوعة قانونية متخصصة، إذ لا عبرة بوسيلة النشر، بل كلها تستوي والعبرة فقط بالمضمون ، ومن المعروف والمألوف ان ينشر فقهاء القانون آراءهم وفتاويهم إما في الكتب والنشرات المتخصصة أو في صورة مقالات رأي في الصحف أو في محاضرات عامة أو في أحاديث لوسائل الإعلام.
في ضوء ما تقدم يتضح لنا إنعدام الأساس القانوني للقول بتجريم التعليق على أحكام القضاء بإطلاق ، وإنما الأصل هو الإباحة دون أي استثناء لأحكام القضاء والتجريم يكون فقط ، عند الخروج عن مقتضيات وضرورات ممارسة حق التعبير وإبداء الرأي والنقد الموضوعي البناء وتضمين التعليق ما يعد سباً أو قذفاً أو إهانة أو تجريح .
بل إننا نضيف إلى ذلك امتداد الحق في توجيه النقد إلى شخص القاضي، عندما يتعلق الأمر بالطعن في عمله ، بوصف القاضي موظفاً عاماً ، مما ينطبق عليه نص الفقرة الثانية من المادة 302 من قانون العقوبات التي تقرر إباحة الطعن في أعمال الموظفين العموميين والتي تنص على : " يعد قاذفا كل من اسند لغيره بواسطة احدى الطرق المبينة بالمادة 171 من هـذا القانون امـورا لو كانت صادقة لاوجبت عقاب من اسند اليه بالعقوبات المقررة لذلك قانونا او اوجبت احتقاره عند اهل وطنه .
ومع ذلك فالطعن فى اعمال موظف عام او شخص ذى صفة نيابية عامة او مكلف بخدمة عامة لا يدخل تحت حكم هذه المادة اذا حصل بسلامة نية وكان لا يتعدى اعمال الوظيفة او النيابة او الخدمـة العامـة ، وبشـرط ان يثبت مرتكب الجريمة حقيقة كـل فعل اسند اليه ولا يغنى عن ذلك اعتقاده صحة هذا الفعل .
ولا يقبل مـن القاذف اقامـة الدليل لاثبات مـا قذف به الا فـى الحالة المبينة فى الفقرة السابقة . "
هذا عن فهمنا لنصوص الدستور والقانون ، ونضيف إليه ما سنعرضه فيما يلي من أمثلة وتطبيقات عملية لتعليقات على أحكام القضاء طالعناها جميعاً منشورة بالصحف ، ولم يحدث في أي حالة أن قام النائب العام – وهو الأمين على الدعوى العمومية - بإحالة أحد إلى المحاكمة الجنائية ، مما يؤكد ويؤيد ما انتهينا إليه بل ويزيد عليه ، ولو كان في الأمر جريمة ، ما توانى النائب العام عن إحالة مرتكبيها للمحاكمة !!.. وإليكم الأمثلة :
المثال الأول: منشور بجريدة المصري اليوم بتاريخ 19/12/2008 بعنوان
أزمة بين «القضاء الأعلى» و«مجلس الدولة» بسبب قضية إعادة محاكمة مرتضى منصور ورد به (كان المستشار مقبل شاكر، رئيس مجلس القضاء الأعلى، قد قال فى بيان رسمى أمس الأول، إن حكم القضاء الإدارى الذى ألزم النائب العام بعرض طلب مرتضى منصور لإعادة محاكمته فى قضية سب وقذف المستشار سيد نوفل، هو حكم معدوم الوجود والأثر القانونى، ولا ولاية للمحكمة التى أصدرته، ويخالف قانون السلطة القضائية )
هذا قول منسوب للرئيس السابق لمجلس القضاء الأعلى!!! فما هو التكييف القانوني لتلك العبارات في ضوء ما ورد ببيان مجلس القضاء الأعلى حول حظر التعليق على الاحكام ؟؟؟.. لا تعليق!!
المثال الثاني: خبر منشور بجريدة المصري اليوم بتاريخ 19/12/2008 بعنوان:
«رؤساء الاستئناف»: حكم «إلغاء قرار إنشاء المجلس» به مغالطات ومخالفات قانونية
ورد به ( فى أول رد فعل على حكم محكمة القضاء الإدارى، بإلغاء قرار إنشاء ما يسمى «مجلس رؤساء الاستئناف»، أصدر المجلس بياناً أمس ذكر فيه أنه «مستمر فى ممارسة عمله فى سبيل رفعة شأن القضاء المصرى الشامخ»، وأكد البيان الذى تلقت «المصرى اليوم» نسخة منه، أن «ما سمى حكماً صدر بإلغاء قرار إدارى مزعوم لم يصدر أصلاً».
وأكد البيان أن ما سمى حكماً صدر بإلغاء قرار إدارى مزعوم لم يصدر، وأن ما سمى حكماً صدر فى دعوى مرفوعة من غير ذى صفة وعلى غير ذى صفة، تلاحظ للمجلس احتواؤه على كم من المغالطات القانونية والمخالفات الواقعية، توصلا إلى إسباغ ولاية مزعومة لمحكمة القضاء الإدارى، إن الاختصاص بهذا الأمر ، إذا كان للادعاء به من محل، معقود استئثارا، بداية وانتهاءً، لدائرة طلبات رجال القضاء بمحكمة استئناف القاهرة، ومن بعدها ذات الدائرة بمحكمة النقض دون غيرهما.
وأضاف: «إنه إزاء ما شاب هذا الذى سمى حكماً من اعتداء واضح على اختصاصات أصلية لمحاكم السلطة القضائية، متجاوزاً بذلك حدود ولاية مجلس الدولة، ضارباً عرض الحائط بأحكام الدستور وجميع المبادئ القانونية والقضائية المستقرة فى أمور بدهية ومسائل أولية، ومحاولاً عبثاً فرض وصايته على شيوخها الأجلاء، فإن مجلس رؤساء الاستئناف لا يسعه سوى الالتفات عنه، إذ لا يلتفت إلى عدم،، لم يأخذ من أحكام القضاء حتى ولا يشكل».)
مره ثانية أيعد ذلك تعليقاً على الأحكام؟؟ .. لا تعليق!!
المثال الثالث: منشور بجريدة المصري اليوم بتارييخ 22/12/2008 بعنوان
«القضاة» يطعن اليوم فى «إنهاء عضوية المستشارين غير المسددين للاشتراكات».. ورئيس النادى: بيان رؤساء الاستئناف إهانة للقضاء
ورد به: (يتقدم المستشار زكريا عبدالعزيز اليوم، بصفته الممثل القانونى لنادى القضاة، «حيث لايزال يشغل رئاسة النادى لحين عقد الانتخابات المقرر لها ١٣ فبراير المقبل»، بطعن أمام محكمة النقض على الحكم الصادر من محكمة استئناف القاهرة «دائرة طلبات رجال القضاء» ضد النادى، بخصوص إلغاء قرار «إنهاء العضوية فى النادى للقضاة الذين لم يسددوا الاشتراكات الشهرية بعد زيادتها من ٢ إلى ٢٠ جنيهاً».
وقال عبدالعزيز لـ«المصرى اليوم»: «سنسلك الطريق القانونى بالطعن أمام محكمة النقض بصفتها أعلى المحاكم، حتى لا تكون الأحكام الصادرة متناقضة»، وتابع: «حكم محكمة الاستئناف جاء مناقضاً لسائر الأحكام المستقرة من النقض بشأن النادى، لأنه قضى بما لا يطلبه مقيمو الدعوى».
وأضاف أن «القضاة الذين رفعوا الدعوى على النادى، طلبوا فقط إلغاء قرار الجمعية العمومية للقضاة بزيادة الاشتراكات، لكن الحكم صدر بإلغاء قرار لم أصدره أصلاً وهو إنهاء عضوية القضاة غير المسددين للاشتراكات».
وحول البيان الصادر عن رؤساء الاستئناف للتعليق على حكم محكمة القضاء الإدارى، بإلغاء قرار إنشاء ما يسمى «مجلس رؤساء الاستئناف»، قال عبدالعزيز: «لقد أصدروا بياناً سيئاً، كما أنهم يعلقون على الأحكام القضائية». مضيفاً أن أعضاء ما يسمى «مجلس رؤساء الاستئناف» هم أنفسهم يعلقون على الأحكام، ويقومون بنفس الإجراء الذى ينتقدونه.
وأوضح أن شيوخ المجلس علقوا على الحكم بطريقة سيئة ومهينة، وقال إنهم: «استنكفوا أن يسموه حكماً أصلاً، رغم أنه صادر عن محكمة موقرة هى محكمة القضاء الإدارى».
وأكد المستشار أحمد مكى، نائب رئيس محكمة النقض، أن الحكم خاطئ تماماً، لذلك وجب الطعن عليه، خصوصاً أن محكمة الاستئناف، حكمت فى الدعوى وهى غير مختصة بنظرها أصلاً، كما اعتبرت أن القرار إدارياً، رغم أن أحكام النقض المتواترة أكدت أن قرارات النادى ليست إدارية لأنه من أشخاص القانون الخاص)
بعد ذلك كله لا زال البعض مصمم على ان التعليق على الأحكام جريمة!!!
وردنا الأخير هو التذكير بما جاء باحكام المحكمة الدستورية العليا إذ تقرر في الحكم في الطعن رقم 2 لسنة 16 قضائية دستورية { ولعل أكثر ما يهدد حرية التعبير أن يكون الايمان بها شكلياً أو سلبياً بل يتعين أن يكون الاصرار عليها قبولاً بتبعاتها وألا يفرض أحد على غيره صمتاً ولو بقوة القانون}
وها نحن نعلنها عالية قوية مدوية : نحن نرفض ان يفرض علينا الصمت!!