حكم التحكيم الأجنبي
إذا كان للحكم معني اصطلاحي موحد وهو " المنطوق الواجب تنفيذ ما أمر به " وإذا كان التحكيم قضاء خاص أو استثنائي ، لأن الأصل أن المحاكم لها ولاية الفصل في المنازعات باعتبارها الجهاز الذي يباشر السلطة القضائية للدولة .
لذلك نعرض بإيجاز مناسب لمفهوم حكم التحكيم الأجنبي من خلال تقسيمه إلى فرعين نخصص الفرع الأول للتعريف بحكم التحكيم ونخصص الفرع الثاني للصفة الأجنبية لحكم التحكيم .
الفرع الأول
التعريف بحكم التحكيم
إذا كان تحديد معنى الحكم مسألة من مسائل التكييف ، فإن محاولة تحديد معنى حكم التحكيم ليست بالأمر الهين ، لأنه يجب من البداية وكمسألة أولية أن نحدد ما إذا كان اتفاق الأطراف على إحالة النزاع على شخص ثالث هو من قبيل الاتفاق على التحكيم ، أم أنه من قبيل الخبرة أو الوساطة ، فيجب على القاضي أن يأخذ في الاعتبار كمسألة أوليه عند القيام بتكيف العمل الصادر من ذلك الشخص الثالث تحديد ما إذا كان صادر منه بصفته محكم أم بصفته خبير أو وسيط بين الطرفين ، ويكون ذلك بتحديد طبيعة المهمة الموكلة إليه ، ويقوم القاضي بتحديد ذلك بما له من سلطة تقديرية ، فيجب استبعاد تكييف القرار بأنه قرار محكم عندما يبدو أن حل النزاع لم يكن بسبب عمل حاسم صادر من ذلك المحكم (1).
فإذا انتهينا بأن اتفاق بإحالة النزاع على شخص ثالث هو اتفاق على التحكيم فيجب أن نحدد بعد ذلك ما إذا كان العمل الصادر من المحكم هو عمل قضائي من عدمه لتحديد ما إذا كان القرار الصادر منه هو حكم تحكيم أم لا ، وذلك لأن الوظيفة القضائية الممنوحة للمحكم بناء على اتفاق التحكيم ، تجعل عمل المحكم يكتنفه العديد من الفروض ، ففي إحدى القضايا حرر المحكم رأيه موضحاً وجهة نظرة في الحل المقرر للنزاع ، فقالت محكمة استئناف باريس أن مثل هذا الرأي ليس بعمل قضائي (2) .
وبذلك يتضح أن محاولة تعريف حكم التحكيم ليست بالأمر الهين ، بدلالة أن القانونيين الذي وضعوا القانون النموذجي للتحكيم الدولي ( اليونسترال ) حاولوا أن يضعوا تعريفاً للحكم التحكيمي ولكنهم تراجعوا عن ذلك ، وكان النص المقترح لتعريف الحكم التحكيمي هو أن كلمة حكم تحكيمي يجب أن تفهم على أنها حكم نهائي يفصل في كل المواضيع المطروحة على المحكمة التحكيمية (3) .
ولكن اتفاقية نيويورك لتنفيذ أحكام المحكمين الأجنبية حددت المقصود بأحكام المحكمين بقولها في المادة الأولي فقرة (2) أنه يقصد بأحكام المحكمين ليس الأحكام الصادرة عن محكمين معينين للفصل في حالات محددة بل أيضاً الأحكام الصادرة عن هيئات تحكيم دائمة يحتكم إليها الأطراف ، ويلاحظ على هذا التعريف أنه تعريف عام شامل لأنه قد يصدر عن المحكمين أحكام تمهيدية أو جزئية ليست فاصلة للنزاع ومع ذلك تعد أحكام تحكمية وفقاً لهذه التعريف .
وعلي ذلك يمكن تحديد المقصود بحكم التحكيم القابل للتنفيذ دولياً بأنه هو حكم التحكيم الملزم المنهي للخصومة ، أي الحكم الفاصل في موضوع النزاع المنهي للخصومة (4) ، سواء كان صادراً بإجابة المدعي إلى طلباته كلها أو بعضها أو برفضها جميعاً .
الفرع الثاني
الصفة الأجنبية لحكم التحكيم
بعد أن انتهينا من تحديد معني حكم التحكيم ، يجب علينا بيان الصفة الأجنبية لحكم التحكيم ، لأن لتحديد الصفة الأجنبية لحكم التحكيم أهمية بالغة حيث يترتب على التمييز بين حكم التحكيم الأجنبي وحكم التحكيم الوطني اختلاف في القواعد القانونية المطبقة على كل منهما ، فالتحكيم الوطني يستتبع تطبيق القانون الوطني ، بخلاف الحال لو أشتمل التحكيم على عنصر أجنبي أو أكثر ، فنكون أمام احتمال تطبيق قانون أو قوانين أجنبية .
كما يترتب على التمييز بين حكم التحكيم الأجنبي وحكم التحكيم الوطني أهمية خاصة فيما يتعلق بتحديد قواعد الاختصاص الدولي للمحاكم بنظر طلب الأمر بالتنفيذ أو استئناف حكم التحكيم أو رفع دعوى ببطلانه ، كذلك تبرز فكرة النظام العام عندما يتعارض حكم التحكيم مع النظام العام في الدولة المطلوب إليها التنفيذ ، ففكرة النظام العام في التحكيم الأجنبي تضيق عن فكرة النظام العام في التحكيم الوطني ، كما تبدو أهمية معرفة صفة التحكيم وانتماءه لدولة معينة لتطبيق مبدأ المعاملة بالمثل أو التبادل .
ومن هنا يثور التساؤل على أي أساس يمكن التمييز بين حكم التحكيم الوطني وحكم التحكيم الأجنبي ؟
للإجابة على هذا التساؤل يوجد عدة معايير لتمييز حكم التحكيم الأجنبي عن حكم التحكيم الوطني أشهرها معيار مكان صدور الحكم ويطلق عليه المعيار الجغرافي والمعيار الإجرائي ويطلق علية المعيار القانوني ، ولكن قبل الاسترسال في بيان هذين المعيارين ينبغي أن ننوه إلى أن جنسية المحكم ، أو جنسية أطراف التحكيم ليس لهما أي اعتبار في تحديد الصفة الأجنبية أو الوطنية لحكم التحكيم ، لأن مناط التمييز يتركز حول الربط بين مسألة انتماء التحكيم وإجراءاته لعنصر معين سواء كان هذا العنصر جغرافي أو قانوني .
1- المعيار الجغرافي :
ومؤدي هذا المعيار أن حكم المحكمين يأخذ جنسية المكان الذي صدر فيه (5) فالعبرة في ثبوت الصفة الأجنبية لحكم المحكمين هي بضرورة صدوره في بلد أجنبي ، بغض النظر عن البلد الذي عقدت فيه مشارطه التحكيم ، وبغض النظر عن جنسية الخصوم أو المحكمين (6) ، وفي حالة تعدد الدول التي يعقد فيها التحكيم ، فيعتد بالدولة التي أنعقد فيها التحكيم بصفة رئيسية وصدر فيها حكم التحكيم ، وذلك لأن الحكم يحمل اسم سلطة الدولة التي صدر فيها ، فالمحكمين يتولون القضاء عن طريق التفويض الذي يصدر لهم من سلطة الدولة على إقليمها (7) ، كما أن المحكمين لا يجلسون للحكم عادة إلا في دولة تربطها بالنزاع موضوع التحكيم صلة وثيقة (
.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا ، هل يجوز لقاضي الدولة الذي يتولى تكييف حكم التحكيم أن يحدد جنسية الحكم بدولة معينة لمجرد صدوره فيها ، أم يكتفي بإسباغ الصفة الأجنبية عليه ؟
يري البعض عدم إمكانية قيام قاضي الدولة الذي يتولى تكييف حكم التحكيم بإسباغ جنسية دولة أخري على الحكم التحكيمى لمجرد صدوره في فيها ، وأن كل ما يملكه هو أن يقرر ما إذا كان يعتد بمعيار محل صدور الحكم وصولاً إلى أجنبية الحكم الصادر في أي من الدول الأخرى ، فله أن تحدد صفة الحكم ( وطنياً أم أجنبياً ) ولكن لا تملك تحديد جنسيته (9) .
والظاهر أن أغلب القوانين لم تتعرض صراحة لمسألة جنسية حكم التحكيم وإن كان يفهم من بعض القوانين اعتبار حكم التحكيم الصادر في بلد أجنبي حكم تحكيم أجنبي ، كما هو الحال في القانون المصري ، حيث نصت المادة 299 مرافعات على أن ( تسري أحكام المواد السابقة " أي المتعلقة بتنفيذ الأحكام الأجنبية" على أحكام المحكمين الصادرة في بلد أجنبي ) ، لذلك يصعب التسليم بالرأي السابق لأن تحديد جنسية حكم التحكيم تكون ضرورية لتطبيق مبدأ التبادل أي المعاملة بالمثل ، أو لإعمال أحكام اتفاقية ما خاصة بتنفيذ أحكام المحكمين .
وتأخذ معظم الاتفاقيات الدولية المتعلقة بالتحكيم بمعيار مكان صدور الحكم لتحديد الصفة الأجنبية لحكم التحكيم ، فأهم اتفاقية دولية لتنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية ، وهي اتفاقية نيويورك لعام 1958م ، قد نصت في مادتها الأولي على أن ( تطبق الاتفاقية الحالية للاعتراف وتنفيذ أحكام المحكمين الصادرة في إقليم دولة غير التي يطلب إليها الاعتراف وتنفيذ هذه الأحكام على إقليمها ) .
ويتميز معيار مكان صدور حكم التحكيم بالوضوح وسهولة الوصول إليه إلا أنه لا يخلوا من النقد ، حيث لا يكفي وحدة لتحديد جنسية حكم التحكيم ، لأنه قد تكون الصدفة وحدها وراء اجتماع المحكمين في دولة معينة للنطق بالحكم وتوقيعه كذلك لا توجد فائدة للأخذ بهذا المعيار في حالة عدم تقابل المحكمين البتة ، وذلك إذا ما تم تبادل وجهات النظر عن طريق المراسلة وهو أمر ممكن عملاً (10) ، كما أن معيار مكان صدور حكم التحكيم كما يقول القضاء الفرنسي قد يكون له أهمية هامشية بالنسبة لإجراءات التحكيم في جملتها (11) .
والواقع أنه يصعب علينا التسليم بهذا المعيار بالجملة لأنه بالإضافة إلى أوجه النقد السابقة ، نجد أن هذا المعيار يفترض تطابق القواعد القانونية في الدول وهذا من الصعب أن يحدث ، لأنه على سبيل المثال في فرنسا يكون حكم التحكيم الذي يصدر فيها أجنبياً ، في حالة تطبيق المحكمين قانوناً أجنبياً غير القانون الفرنسي حيث أصدرت محكمة باريس في 5/7/1955م حكماً قالت فيه ( أن حكم التحكيم الصادر في تحكيم أجرى في فرنسا هو حكماً أجنبياً لأنه صادر وفقاً لأحكام القانون الإنجليزي ) ، وفي ألمانيا يعتبر حكم التحكيم وطنياً ولو صدر في الخارج إذا ما خضع لقانونها الإجرائي (12) .
كما أن هذا المعيار يعد قياساً على معيار أجنبية الأحكام القضائية ، وهو قياس مع الفارق لأنه كما سبق وأن أوضحنا في المطلب السابق أن التحكيم ذو طبيعة خاصة ، وبالتالي لا تصلح المعايير التقليدية لأن تصوغ الأحكام الخاصة به كما أن معيار مكان صدور الحكم القضائي منتقد بإمكانية صدور أحكام قضائية في الخارج ومع ذلك تعد أحكام وطنية كما هو الحال في أحكام المحاكم القنصلية وأحكام محاكم البلاد الواقعة تحت الاحتلال الحربي ، وبالإضافة إلى ذلك كله فإن اتفاقية نيويورك لتنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية لم تكتف بالأخذ بهذا المعيار بمفردة وأخذت بمعيار أخر بجانبه وهو كون أحكام التحكيم أجنبية وفقاً لقانون الدولة المطلوب فيها الاعتراف بحكم التحكيم وتنفيذه ، حيث نصت في مادتها الأولى على ذلك بالقول ( … وكذلك على أحكام التحكيم المعتبرة غير وطنية في دولة التنفيذ ) ، ولكن ليس معني ما أثرناه بقولنا هذا أننا نرفض الأخذ بهذا المعيار ، بل على العكس نوافق عليه ، ونؤيد العمل به ، كل ما في الأمر أن هذا المعيار ليس في رأينا هو المعيار الوحيد لتحديد الصفة الأجنبية لحكم التحكيم بحيث يكون جامعاً مانعاً من الأخذ بأي معيار أخر لتحديد الصفة الأجنبية للحكم .
2- المعيار الإجرائي ( المعيار القانوني ) :
ومؤدي هذا المعيار اكتساب حكم التحكيم جنسية الدولة التي تم تطبيق قانونها الإجرائي على التحكيم (13) .
ووفقاً لهذا المعيار يكون حكم التحكيم أجنبياً إذا تم داخل إقليم الدولة نظراً لخضوعه إجرائياً لقانون دولة أخرى ، ويكون حكم التحكيم وطنياً رغم صدوره في الخارج إذا تم وفقاً للقانون الوطني (14) .
ويمكن للأفراد من خلال هذا المعيار التحكم في الصفة الأجنبية أو الوطنية لحكم التحكيم بطريقه غير مباشرة من خلال اختيار مكان إجراء التحكيم ، لأنه سيتم في هذه الحالة تطبيق القانون الإجرائي الخاص بهذا المكان على إجراءات التحكيم .
ويتميز المعيار الإجرائي بكونه أكثر تماسكاً من المعيار الجغرافي ، لأنه معيار قانوني لا يخضع لتغيرات المكان ويضرب بعض الشراح الغربيين مثالاً لذلك بالقول أنه إذا ذهب المحكم الإيطالي مثلاً بعد انتهاء التحكيم في إجازة إلى يوجوسلافيا ، وأخذ معه ملف القضية وكتب الحكم ووقعه هناك ، فلن يكون هذا الحكم يوجوسلافياً بفضل هذا المعيار الإجرائي (15) .
كما أن المعيار الإجرائي يتمشى مع التكييف الغالب للتحكيم على أنه ذو طابع قضائي أو ذو طابع خاص أقرب للقضاء (16) ، وأستخلص بعض الشراح تأييد اتفاقية نيويورك للمعيار الإجرائي وذلك عندما تتحدث الاتفاقية عن تعريف الأحكام الأجنبية فهي بالدرجة الأولي تلك الأحكام الصادرة في دولة غير التي يراد الاعتراف بالحكم وتنفيذه فيها بالإضافة إلى ذلك تسري الاتفاقية أيضاً على الأحكام الصادرة في نفس الدولة المطلوب فيها التنفيذ إذا اعتبرتها هذه الدولة مع ذلك أجنبية ، ويكون ذلك نتيجة أن التحكيم خضع لقانون إجرائي مختلف عن قانون الدولة المطلوب فيها الاعتراف بالحكم وتنفيذه ، وذلك لإحداث توفيق لا بد منه بين متطلبات بعض الدول للاعتراف بالمعيار الإجرائي وبين اعتراضات الدول الأخرى (17) .
ويؤخذ على هذا المعيار عدم مراعاته للجانب الإرادي في التحكيم ، لأن إرادة الأطراف تسري في أوصال العملية التحكمية ولا تنفصل عنها (18) .
ويتضح لنا أن الأخذ بهذا المعيار لتحديد الصفة الأجنبية لحكم التحكيم ومن ثم جنسية حكم التحكيم يتفق مع الطبيعة الخاصة بالتحكيم كنظام لحسم المنازعات لأنه لا شك أن المعيار الجغرافي قد يبدو غير منطقي في بعض الأحوال ، حينما يجعل جنسية حكم التحكيم متوقفة على مكان صدوره حتى وإن كان هذا المكان يقل كثيراً في أهميته مقارنة بالعناصر الأخرى الداخلة في عملية التحكيم .
وفى النهاية يمكن لنا القول أنه لا يوجد قاعدة موحدة على مستوى دول العالم لاعتبار حكم تحكيم ما أجنبياً من عدمه ، فكل قاضي يراد منه الاعتراف بحكم تحكيم ما ، هو الذي يتولى تقدير كون ذلك الحكم أجنبياً من عدمه وهو يجري هذا التقدير وفقاً لقانونه الداخلي ووفقاً للاتفاقيات المنضمة إليها دولته ، وإنما عنينا بالإشارة إلى المعيارين السابقين بوصفهما الأكثر شيوعاً بين الدول ، فقد تأخذ دولة ما بأحدهما أو بهما معاً أو بضوابط معينة منصوص عليها في قانونها الداخلي ، وهذا ما راعاه واضعوا نصوص معاهدة نيويورك حينما نصوا على أن حكم التحكيم يكون أجنبياً متي كان صادراً في دولة ما ويراد تنفيذه في دولة أخري وأن ذلك لا يمنع من أن تعتبر دولة ما حكم تحكيم أجنبياً متي كان قانونها الداخلي يقرر ذلك وفقاً لضوابط معينة مثل موضوع النزاع ، وجنسية ومحل إقامة أطرافه وجنسية المحكمين ومكان التحكيم ، والقانون المطبق لحسم النزاع ، ومكان توقيع العقد أو تنفيذه .
ويجب أن نلاحظ أن التطور القانوني السريع في مجال التحكيم قد أفرز عن وجود ما يسمي بالتحكيم الدولي بجانب التحكيم الوطني والتحكيم الأجنبي وهو التحكيم الذي ينتمي لأكثر من دولة بأكثر من عنصر من عناصره ويصعب تحديد انتماءه لدولة معينة دون الدولة الأخرى (19) ، وقد نص على هذا النوع من التحكيم قانون التحكيم المصري الجديد رقم 27 لسنة 1994م في المادة الثالثة منه ، وقانون التحكيم الدولي اللبناني سنة 1983م في المادة (809) فقرة (20) ، وقانون التحكيم اليمني سنة 1992م ، وقانون التحكيم التونسي سنة 1993م وقانون التحكيم الجزائري سنة 1993م ، وقانون التحكيم البحريني سنة 1994م وقانون التحكيم العماني سنة 1997م ، وقانون التحكيم السويسري سنة 1987م وقانون التحكيم البلجيكي سنة 1985م .
أما على مستوى الاتفاقيات الدولية فهو غير موجود إلا في نطاق اتفاقية واشنطن لتسوية منازعات الاستثمار بين الدول ورعايا الدول الأخرى عام 1956م فالمراكز الإقليمية للتحكيم لم يتمخض عنها وجود تحكيم دولي يتمتع بنفاذ دولي مباشر حتى على النطاق الإقليمي الذي تمارس فيه هذه المراكز نشاطها ، فالأحكام الصادرة في نطاق هذه المراكز يجري بحث وطنيتها وأجنبيتها حسب محل صدورها أو حسب أحد المعايير الأخرى التي تأخذ بها دولة التنفيذ المعنية (21) .
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هل هناك فرق بين حكم التحكيم الدولي وحكم التحكيم الأجنبي ؟
للإجابة على هذا التساؤل نقول : يري البعض عدم وجود فرق بين حكم التحكيم الأجنبي وحكم التحكيم الدولي ، ويجمع بينهما تحت اسم واحد هو حكم التحكيم الدولي وأن كل تحكيم غير وطني هو دولي لأن أي حكم تحكيم أجنبي بالنسبة لدولة ما يعد وطنياً بالنسبة لدولة أخري ، ومن ثم فإن اتصال التحكيم بأكثر من نظام قانوني يجعله تحكيم دولي ، ولأن التفرقة بين التحكيم الأجنبي والتحكيم الدولي تؤدي إلى الخلط بين التحكيم الذي يتم بين أفراد أو هيئات خاصة والتحكيم الذي يمكن أن يقع بين الدول (22) .
ويري البعض الأخر أنه لا بد من التمييز بين حكم التحكيم الأجنبي وحكم التحكيم الدولي خصوصاً بعد قيام بعض القوانين بالنص عليه ووضع معايير لتحديده ، إذ يكون على القاضي الذي ينظر طلب تنفيذ حكم تحكيم أن يكيفه بين فروض ثلاثة هي أن يكون حكم التحكيم وطني ، أو أن يكون حكم التحكيم أجنبي أو أن يكون حكم التحكيم دولي (23) .
والواقع أنه بمراجعة حالات دولية التحكيم المنصوص عليها في القوانين المختلفة ومنها القانون المصري في المادة (24) من قانون التحكيم في المواد المدنية والتجارية رقم 27 لسنة 1994م ، والقانون النموذجي للتحكيم التجاري الدولي الذي وضعته لجنة الأمم المتحدة لقانون التجارة الدولية ( الانسيترال ) ، يتضح لنا أن كل تحكيم أجنبي هو تحكيم دولي ولكن ليس كل تحكيم دولي هو تحكيم أجنبي لأن التحكيم يمكن أن يقع على إقليم دولة محددة ومع ذلك يكتسب الصفة الدولية الأمر الذي يجعل للرأي الثاني وجاهة وثقلاً ، كما أن هناك فروق تترتب على اكتساب حكم التحكيم لوصف الأجنبية أو الدولية تثار بمناسبة تحديد مدى سلطة القاضي الوطني عند التعرض لحكم تحكيم أجنبي أو دولي من حيث التعرض لصحتها أو بطلانها وإصدار الأمر بتنفيذها أو رفضه ، فمثلاً القواعد المتعلقة بحكم التحكيم في ذاته من حيث شروط صحته وضوابط إصدار الأمر بتنفيذه تخضع لقانون الدولة التي تم إجراء التحكيم على إقليمها سواء كان التحكيم وطنياً أم دولياً ، أما إذا كان التحكيم يجري في الخارج فإنه لا يخضع لهذا القانون إلا إذا أتفق أطرافه على ذلك (25) .
وقبل أن أختم هذا الفرع أود أن أشير كذلك أنه في بداية الخمسينيات من هذا القرن أوجد الفكر القانوني وعلى الأخص في فرنسا وألمانيا وسويسرا نوع من أنواع أحكام التحكيم تسمي الأحكام الطليقة أو اللامنتمية ، وهو الحكم الذي لا يقع في نطاق أي قانون تحكيم وطني بواسطة اتفاق الأطراف (26) ، والاختلاف الأساسي بينه وبين حكم التحكيم الدولي ، أن الأخير يتصل بأكثر من نظام قانوني وطني في حين أن الأول لا يتصل بأي نظام قانوني وطني ، وفى واقع الأمر أنه إذا كان هذا النوع من الأحكام قد نشأ كطفرة وجدت في مجال عقود التجارة الدولية عند محاولة عزل العقد عن أي نظام قانوني وتطبيق ما يسمي بأعراف وعادات التجارة ، إلا أن هناك تردد كبير في الاعتراف بوجوده في الواقع ، فهو يلقي معارضة شديدة من قبل القضاء والشراح ، لأنه لابد لأي علاقة أن تستند إلى قانون ما ، وبالتالي فإن أي تحكيم لا بد وأن يرتبط بنظام قانوني معين (27) سواء وطني أو أجنبي أو دولي (28) .
([1]) محمد نور عبد الهادي شحاته ، الرقابة على أعمال المحكمين " موضوعها وصورها – دراسة مقارنة " ، ( القاهرة : دار النهضة العربية ، 1993م ) ، 28 .
(2) المرجع السابق ، 29 .
(3) عبد الحميد الأحدب ، موسوعة التحكيم ، التحكيم الدولي ( القاهرة : دار المعارف ، 1998م ) ، 302 .
(4) وقد وضعت محكمة استئناف باريس تعريفاً لحكم التحكيم في حكمها الصادر في 25/3/1994م في قضية SARDISUD
بقولها أعمال المحكمين التي تفصل بطريقة نهائية في كل أو في جزء من النزاع المعروض عليهم سواء في أساس النزاع ، أو في
الاختصاص ، أو في إجراءات المحاكمة ، وتفضي لوضع حد نهائي للدعوى . منشور في المرجع السابق ، 302 .
(5) وقد وضعت محكمة استئناف باريس تعريفاً لحكم التحكيم في حكمها الصادر في 25/3/1994م في قضية SARDISUD
بقولها أعمال المحكمين التي تفصل بطريقة نهائية في كل أو في جزء من النزاع المعروض عليهم سواء في أساس النزاع ، أو في
الاختصاص ، أو في إجراءات المحاكمة ، وتفضي لوضع حد نهائي للدعوى . منشور في المرجع السابق ، 302 .
(6) عزت محمد علي البحيري ، المرجع السابق ، 54 .
(7) محمد كمال فهمي ، المرجع السابق ، 689 .
(
عز الدين عبد الله ، تنازع القوانين في مسائل التحكيم الدولي في مواد القانون الخاص ، مجلة مصر المعاصرة ، س69 ، ع371 ،
14 .
(9) إبراهيم أحمد إبراهيم ، تنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية ، المجلة المصرية للقانون الدولي ، ع37 لسنة 1981م ، 6 .
(10) عصام الدين القصبى ، النفاذ الدولي لأحكام التحكيم الدولية ( القاهرة : دار النهضة العربية ، 1993م ) ، 36 .
(11) أبو زيد رضوان ، الأسس العامة للتحكيم التجاري الدولي ( القاهرة : دار الفكر العربي ، 1981م ) ، 61 .
عبد الحميد الأحدب ، موسوعة التحكيم ، التحكيم الدولي ، ج2 ( القاهرة ، دار المعارف ، 1998م ) ، 18 .
عصام الدين القصبي ، المرجع السابق ، 28 .
(12) عزت محمد علي البحيري ، المرجع السابق ، 57 .
(13) أبو زيد رضوان ، المرجع السابق ، 61 .
(14) عزت محمد على البحيري ، المرجع السابق ، 60 .
(15) وترجع أصول هذا المعيار إلى العمل القضائي الإنجليزي ، ففي إنجلترا وقبل عام 1979 ،كان للمحكمة العليا أن تجبر المحكم على تحديد موضوع قانوني معين تحت ما كان يسمى بإجراء الحالة الخاصة ، ففي قضية تتلخص وقائعها أن شركة إنجليزية تعاقدت مع شركة إنشاء اسكتلندية للقيام بإنشاء مبني في اسكتلندا ، واتفقا على أن يكون تفسير العقد خاضعاً للقانون الإنجليزي ، وكانت اسكتلندا مقراً للتحكيم ، وبعد تمام الإجراءات من سماع الشهود وتقديم البيانات ن طلبت الشركة الإنجليزية من المحكم أن يعرض القضية على المحكمة العليا ، ولكن المحكم رفض هذا الطلب ، حيث كان القانون الاسكتلندي الفيصل النهائي لحسم مسائل القانون
والواقع ، وقد أقر مجلس اللوردات هذا الرفض . المرجع السابق ، 60 .
(16) المرجع السابق ، 62 .
(17) عصام الدين القصبى ، المرجع السابق ، 29 .
(18) عزت محمد علي البحيري ، المرجع السابق ، 63 .
(19) المرجع السابق ، 63 .
(20) إبراهيم أحمد إبراهيم ، تنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية ، مرجع سابق ، 7 .
(21) سامية راشد ، التحكيم في إطار المركز الإقليمي بالقاهرة ومدى خضوعه للقانون المصري ( الإسكندرية : منشأة المعارف ،
1986م ) ، 157 .
(22) إبراهيم أحمد إبراهيم ، تنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية ، المجلة المصرية للقانون الدولي ، مرجع السابق ،7 -8 .
(23) عزت البحيري ، المرجع السابق ، 73 .
(24) أحمد شرف الدين ، سلطة القاضي المصري إزاء أحكام التحكيم ، ط2 ، ( القاهرة : النسر الذهبي للطباعة ، 1997م ) ، 37 وما بعدها .
(25 المرجع السابق ، 96 .
(26) ففي القضية المعروفة بـSEEE V. YGOSLAVIA رفضت المحكمة الهولندية العليا تنفيذ الحكم الصادر فيها ، وقالت أنه لا
يشكل حكم تحكيمي بالمعني الحقيقي ، حيث أنه قد صدر من محكمين أثنين على الرغم من أن قانون المرافعات الخاص بمقاطعة
CONTON VAUD السويسرية التي كان يجري التحكيم وفقاً له يتطلب عدداً وتراً في المحكمين ، كما أنه لا يعد حكم تحكيم
وفقاً لاتفاقية نيويورك على الرغم من أن المادة 5/1/د تتيح للأفراد الحرية في تشكيل هيئة التحكيم وإجراءات التحكيم ، لأن حكم
التحكيم وفقاً لذات المادة فقره (هـ) يتطلب أن يكون محكوماً بقانون معين ، وقد بذلت محاولات كثيرة في دول عدة لتنفيذ هذا
الحكم ولكن لم يكتب لها النجاح . منشور في المرجع السابق ، 104 .
(27) ويبدو من المناقشات الموسعة التي جرت بخصوص هذه الفكرة في مؤتمر الأمم المتحدة الذي تمخض عن اتفاقية نيويورك لعام 1958م ، أن معظم الدول لم تشأ أن تخاطر بالأخذ بهذه الفكرة ( الحكم الطليق ) لأن ذلك قد يؤدي إلى المساس بالعدالة وإساءة استعمال حرية الأطراف في مجال التحكيم .