مسؤولية سائق وسائل النقل الجماعية
في القتل الخطأ عن الدية والكفارة
إعداد
الأستاذ الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي
أستاذ الفقه الإسلامي وأصوله
كلية الشريعة - جامعة دمشق
تقديم
الحمد لله الآمر بالعدل والاستقامة، والصلاة والسلام على النبي البَرّ العدل، وعلى آله وصحبه أهل الفضل والإحسان، وبعد:
فإن هذا موضوع حيوي واقعي معاصر، ليس في قديم الفقه منه إلا القليل، ولكنه يسير على من يسَّره الله عليه، في ضوء معطيات فقه الفقهاء الأثبات، وحكمة العلماء ذوي البصائر النيرة، وإبانته وتفصيله شيء ضروري، والإحاطة بمضمونه لا يستغني عنه عالم.
وإني أُحسّ بمزيد الغبطة والحبور أن كان المجمع الفقهي الإسلامي الدولي يثير في كل دورة الجديد وما يناسب، ويوجِّه إلى ضرورة الإسهام في تبيان ما هو غامض أو محدود التفصيل في كتب القدماء، فيكون متجاوباً مع تطلعات الأمة الإسلامية إلى معرفة الجديد، وتجديد البحث في المشكل أحياناً، والمغمور أحياناً أخرى.
ما أكثر وقائع الأحداث المميتة في كل يوم وفي كل بلد، بسبب وسائل النقل الحديثة من سيارات وقطارات وبواخر وطائرات وغيرها، مما يستدعي معرفة أحكام هذه الحوادث وتغطية تفاصيلها، سواء فيما يتعلق بالحقوق المالية الخاصة، أو بحق الله تعالى أو حق المجتمع، لأن تلازم الحقين الخاص والعام في شرعة الإسلام هو الظاهرة المميزة لها، ليتحقق بهذا التلازم أو التآزر مصلحة الإنسان ومصلحة المجتمع معاً، فيؤدي المخطئ أو العصبات الحقوق المالية كالدية حال القتل أو الأروش (التعويضات) حال ارتكاب الاعتداء أو الخطأ على ما دون النفس من الأعضاء، ثم يبادر إلى إصلاح العلاقة مع الله لتفادي أثر الخطأ في قتل النفوس بأداء الكفارة المقررة شرعاً بنص الكتاب العزيز.
خطة البحث:
البحث في هذا الموضوع على وفق المحاور الآتية:
* تقسيم القتل الخطأ إلى خطأ في القصد، وخطأ في الفعل وحكمها
* حكم ما جرى مجرى الخطأ، والقتل بالتسبب (عند القائلين بهما)
* تطبيق حوادث وسائل النقل الجماعية على الأقسام السابقة
* تحميل المسؤولية لمالك وسيلة النقل أو سائقها، أو متبوعه (الحكومة أو الشركة المالكة)
* تخلل الأسباب الخارجية في الحوادث المؤدية لموت ركاب وسيلة النقل
أ- الاصطدام بوسيلة أخرى
ب- عوائق الطرقات
جـ - مخالفة أنظمة المرور مثل المرور باتجاه ممنوع
د- أخطاء المرشدين للسفن والطائرات أو القطارات
* حكم الدية من حيث التعدد وعدمه لتعدد الموتى بوسائل النقل الجماعية
* حكم كفارة القتل الخطأ من حيث التعدد وعدمه لتعدد الموتى بوسائل النقل الجماعية
تقسيم القتل الخطأ إلى خطأ في القصد وخطأ في الفعل وحكمهما
جرائم القتل إما عمد وإما خطأ، ومشهور مذهب المالكية الاقتصار على هذه القسمة، وأن القتل نوعان: عمد وخطأ، وأضاف الشافعية والحنابلة شبه العمد، فيصبح القتل ثلاثة أنواع: عمد، وشبه عمد، وخطأ. ووسّع الحنفية القسمة فجعلوا أنواع القتل خمسة أنواع: عمد، وشبه عمد، وخطأ، وما جرى مجرى الخطأ، والقتل بالتسبب.
أما العمد في اصطلاح الحنفية: فهو ما قصد به القاتل ضرب غيره بسلاح أو ما جرى مجرى السلاح في تفريق أجزاء الجسد، كالمحدد من الخشب والحجر والنار والإبرة في مقتل.
وأما شبه العمد في رأي أبي حنفية: فهو أن يقصد الفاعل الضرب بما ليس بسلاح ولا ما أجري مجرى السلاح في تفريق أجزاء الجسد، كالضرب بالعصا والحجر والخشب الكبيرين. وهذا هو المعروف بالقتل بالمثقَّل، وجعله الصاحبان عمداً، وجعلا الحجر والخشب الصغيرين شبه عمد.
وأما القتل الخطأ: فهو الذي لا يقصد به القتل أو الضرب، وهو نوعان:
1- خطأ في القصد: وهو أن يرمي شيئاً يظنه صيداً، فإذا هو إنسان، أو يظنه حربياً فإذا هو مسلم، أي إن الخطأ يرجع إلى فعل القلب وهو القصد.
2-خطأ في الفعل نفسه: وهو أن يرمي هدفاً أو صيداً، فيصيب آدمياً، أو يقصد رجلاً، فيصيب غيره، أي إن الخطأ راجع إلى أداة الرمي.
وأحكام القتل الخطأ بنوعيه هذين أربعة هي:
1- وجوب الدية والكفارة:
أما وجوب الدية فلقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاّ أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء: 4/92].
ويشمل هذا الحكم عند الجمهور غير المالكية المسلم والمعاهد لقوله تعالى: {وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 4/92].
ودية القتل الخطأ
مئة من الإبل مخمسة: 20 بنت مخاض، و20 ابن مخاض أو ابن لبون، و20 بنت لبون، و20 حقة، و20 جذعة. وتقسّط على ثلاث سنوات، عملاً بفعل عمر رضي الله عنه، وتتحملها العاقلة. عملاً بقضاء النبي صلى الله عليه وسلم بدية الخطأ على العاقلة، فقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قضى بدية المرأة المقتولة ودية جنينها على عصبة القاتلة.
والعاقلة جمع عاقل: وهو دافع الدية، والعاقلة: هي التي تتحمل العقل أي الدية، وعاقلة الرجل: عشيرته وقرابته من قبل الأب، وهم العصبة النسبية كالإخوة والأعمام، للحديث السابق عن المغيرة.
وقال أبو حنيفة: إنها تجب على أهل الديوان، ولا شيء على الورثة، لأن عمر جعلها على أهل الديوان دون أهل الميراث، إن كان القاتل من أهل الديوان (ديوان العسكر) فإن لم يكن القاتل من أهل الديوان، فعاقلته: قبيلته وأقاربه وكل من يستنصر بهم، ومن لا عاقلة له كاللقيط والحربي فعاقلته بيت المال.
والسبب في إلزام العاقلة الدية:
أن جنايات الخطأ تكثر، ودية الآدمي كثيرة، فاقتضت الحكمة إيجابها على العاقلة على سبيل المواساة للقاتل وإعانته تخفيفاً عنه.
لكن نص متأخرو الحنفية على أن الدية في زماننا أصبحت واجبة في مال الجاني وحده، بسبب تغير نظام بيت المال، وزوال عصبية القبيلة وتفكك رابطة العشيرة.
وأما الكفارة فهي: عتق رقبة مؤمنة، فمن لم يجدها كما في عصرنا لإلغاء الرق من العالم، فعليه صيام شهرين متتابعين، لا يفصل أيامهما شيء حتى العيد، ودليل وجوب الكفارة على القاتل قول الله تعالى في الآية السابقة في إيجاب الدية حتى للمؤمن الموجود في بلاد الكفار: {فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [النساء: 4/92].
2- الحرمان من الميراث:
لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((القاتل لا يرث)) وفي رواية: ((ليس لقاتل ميراث)) ولأن القتل قطع الموالاة (المناصرة) التي هي سبب الإرث، وسداً للذرائع، كيلا يطمع أحد بمال مورثه.
والقتل المانع من الإرث في رأي الجمهور:
هو القتل العدوان بغير حق، الصادر من المكلَّف (البالغ العاقل) عمداً أم خطأ، لكن الحنفية ذكروا أن القتل بالتسبب لا يمنع الإرث.
وذهب المالكية: إلى أن القتل الخطأ لا يحرم الإرث من المال، وإنما من الدية فقط، سواء كان مباشرة أو تسبباً.
3- الحرمان من الوصية:
وهذا عند الحنفية فقط أخذاً بحديث: ((ليس لقاتل وصية))، وأما بقية الفقهاء فلم يأخذوا بها الرأي، ولم يعتبروا القتل مانعاً من الوصية، وإن منع الميراث، وصحح المالكية، والشافعية في الأظهر الإيصاء للقاتل، وأبطل الحنابلة على المذهب الوصية للقاتل إن وصى له قبل الجرح، ثم طرأ القتل على الوصية.
حكم ما جرى مجرى الخطأ والقتل بالتسبب
الذي يجري مجرى الخطأ وحكمه حكم الخطأ نوعان:
1- عمد الصبي والمجنون والمعتوه: يرى جمهور الفقهاء أن عمد الصبي والمجنون والمعتوه كالخطأ في وجوب الدية على العاقل، ولا قصاص عليه، لعدم توافر القصد الصحيح، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يكبر، وعن المجنون حتى يعقل - أو يفيق)). وليس عليه كفارة لعدم توافر أهلية التكليف.
وذهب الشافعية إلى التفرقة بين الصبي المميز وغير المميز، فقالوا: إن عمد الصبي المميز عمد في الأظهر، وعمد الصبي غير المميز خطأ اتفاقاً، ولكن لا قصاص على أي صبي، وتكون الدية في حال الخطأ على العاقلة، وفي ماله في حاله العمد.
2- ما أجري مجرى الخطأ: هو المشتمل على عذر شرعي مقبول، كانقلاب نائم على آخر فيقتله. وحكمه عند الحنفية القائلين به حكم الخطأ، وإن كان دون الخطأ حقيقة. وألحق بقية الفقهاء هذه الحالة بالقتل الخطأ. وعليه، فإن الفقهاء انفقوا على وجوب الدية على العاقلة والكفارة فيه، لترك التحرز، ويحرم القاتل خطأ من الميراث عند غير المالكية لمباشرته القتل، واستعجاله الإرث، وكذلك يحرم من الوصية عند الحنفية.
وأما القتل بالتسبب: فهو الحادث بواسطة غير مباشرة، كمن حفر حفرة أو بئراً في غير ملكه في طريق عام بغير إذن السلطة، فوقع فيها إنسان ومات، أو وضع حجراً أو خشبة على قارعة الطريق، فعثر به إنسان، فمات، ومنه الإكراه على القتل، ومثل شهود زور على بريء بالقتل، وشهود القصاص إذا رجعوا عن شهادتهم، بعد قتل المشهود عليه، والسبب: ما يؤثر في الهلاك ولا يحصله، أي إنه يؤثر في إحداث الموت لا بذاته ولكن بواسطة.
وله حكم القتل الخطأ عند الحنفية، فلا يوجب القصاص، وإنما يوجب الدية والكفارة، ولا يترتب عليه الحرمان من الإرث والوصية، قال في درر الحكام: على راكب الدابة الكفارة لأنه مباشرة ولا يرث إن كان المقتول مورثه، أما المتسبب كالسائق والقائد فلا يحرم من الإرث ولا كفارة عليه.
ولا فرق بين القتل مباشرة أو تسبباً عند جمهور الفقهاء غير الحنفية، فإذا تعمد الإنسان قتل غيره بالتسبب كان كالقتل مباشرة، يوجب القصاص، ويؤدي إلى الحرمان من الإرث عند الشافعية والحنابلة خلافاً للمالكية. ولا كفارة في هذه الحالة عند المالكية والحنابلة، وعليه كفارة عند الشافعية. واتفق جمهور الفقهاء غير المالكية على وجوب الكفارة في القتل شبه العمد على العاقلة وتأجيلها ثلاث سنين، لأنه ملحق بالخطأ، ويجري مجرى الخطأ في وجوب الكفارة على الجاني.
تطبيق حوادث وسائل النقل الجماعية على الأقسام السابقة
إذا كان الدهس بالسيارات ونحوها عمداً، فيجب القصاص على السائق عند الفقهاء اتفاقاً، لأن هذه الآلات قاتلة عادة.
وأما إذا كان الدهس خطأ وهو الغالب، فتجب الدية لكل واحد من القتلى، كما تجب الكفارة، ويترتب عليه عند الحنفية والشافعية والحنابلة الحرمان من الميراث، وكذا عند الحنفية الحرمان من الوصية، ولا يترتب عليه عند المالكية الحرمان من الأمرين.
هذا في الجملة، وأما تفصيل الأحكام، فإن كان القتل خطأ سواء كان خطأ في القصد أو خطأ في الفعل، فتترتب الأحكام الأربعة السابقة وهي:
وجوب الدية على العاقلة (العصبة)، ووجوب الكفارة وهي اليوم صيام شهرين متتابعين، والحرمان من الإرث، والحرمان من الوصية.
وإن كان القتل مما أجري مجرى الخطأ كما في حال انقلاب نائم على آخر فيقتله، فتجب الدية على العاقلة، وعليه الكفارة، ويحزم من الميراث عند الجمهور غير المالكية، وكذلك يحرم من الوصية في رأي الحنفية دون غيرهم.
وأما إذا كان القتل بالتسبب كالإكراه وشهادة الزور، فله حكم القتل الخطأ المتقدم عند الحنفية، فتجب الدية على العاقلة، والكفارة على القاتل، ولا يحرم من الإرث والوصية في رأيهم، وأوجب عليه عند بقية الفقهاء القصاص حال التعمد كالقتل مباشرة، ولا كفارة عليه عند المالكية والحنابلة لأنه لا كفارة في القتل العمد، وتجب الكفارة في رأي الشافعية حينئذ، لقولهم بإيجاب الكفارة في العمد والخطأ على السواء، ويحرم القاتل من الميراث عند الشافعية والحنابلة، ولا يحرم عند المالكية.
وفي حال تعدد القتلى عمداً كما يرى الجمهور في القتل بالتسبب: يقتص عند الشافعية من الجاني لواحد من القتلة بالقرعة وجوباً، وللباقين المستحقين الديات لتعذر القصاص عليهم، كما لو مات الجاني (السائق هنا) مثلاً. ويكتفي بقتل الواحد بالجماعة عند الحنفية والمالكية، ولا دية لأحد.
وذهب الحنابلة إلى أنه إن اتفق أولياء القصاص على القصاص، قتل بهم، وإن أراد أحدهم القصاص (القود) والآخر الدية، قتل لمن أراد القود، وأعطي الباقون الدية من مال الجاني، سواء قتلهم دفعة واحدة أو على دفعتين، لحديث التخيير لأولياء الدم بين القصاص والدية.
أما إن كان القتل خطأ ونحوه فتجب الديات للكل، والكفارة.
تحميل المسؤولية لمالك وسيلة النقل أو سائقها أو متبوعه (الحكومة أو الشركة المالكة)
إن حوادث وسائل النقل الجماعية من سيارات وطائرات وقطارات وغيرها قد يتحمل المسؤولية عنها من دية أو تعويض مالك الوسيلة أو سائقها أو متبوعه.
- أما تحميل المسؤولية لمالك وسيلة النقل الخاصة أو العامة: فهو الأصل في هذه المسؤولية، إذا كان هو القائم بقيادة السيارة ونحوها، لأنه هو المخطئ إذا كان هو المباشر للحادث أو المتسبب فيه، وتشمل مسؤولية جميع المتضررين، فإذا ماتوا وجب عليه لهم الدية، وإن جرحوا أو عطبوا، وجب عليه التعويض بقدر الجناية.
- وأما تحميل المسؤولية للسائق غير المالك: فذلك في حالة قيام السائق بقيادة أو سوق وسائط النقل، وثبت أنه هو المخطئ، فيتحمل تبعة خطئه بالنسبة لجميع الركاب، وهذا له شبيه تقريبي في فقهنا بحالة ضمان ما أتلفه قطار الإبل، وهذه آراء الفقهاء في الموضوع:
يرى الحنفية: في حالة القتل الخطأ الواقع على شخص من بعير في قطار إبل تكون المسؤولية على قائد القطار بالنسبة لما يقوده خلفه، سواء كان في الأمام أو الطليعة أو وسط القطار، ولا يضمن ما هو قدامه إذا كان راكباً وسط القطار، وإذا كان معه سائق في آخر القطار يضمن الاثنان، ويكون ضمان النفس على العاقلة، وضمان المال في ماله، وضمان ما ينفحه البعير على السائق خاصة، لا على الركب.
وذهب المالكية إلى أن قائد القطار ضامن لما وطئ العير، سواء في أول القطار وآخره، ولا يضمن ما ينفحه البعير بيده أو رجله إلا إذا تسبب في ذلك.
وأوجب الحنابلة الضمان على راكب جمل مقطور به جمل آخر، لأن الراكب في حكم القائد، ولكن لا يضمن جناية الجمل المقطور إلا إذا كان له سائق، لأن الراكب على الجمل الأول لا يمكنه حفظ الثاني عن الحنابلة.
- وأما تحميل المسؤولية للمتبوع (الحكومة أو الشركة المالكة): فقد أخذت القوانين المدنية كما في مصر وسورية وغيرهما بنظرية مسؤولية المتبوع عن أعمال تابعة إذا وجدت رابطة التبعية، على أساس المسؤولية التقصيرية، وإن لم يباشر أو يتسبب في إحداث الضرر، باعتباره كفيلاً للتابع، وعملاً بمبدأ المصلحة، ولتخفيف مسؤولية التابع، وذلك مطبق أيضاً في القوانين الجنائية.
جاء في القانون الأردني والإماراتي في بيان مسؤولية المتبوع: ((من كانت له على من وقع منه الإضرار سلطة فعلية في رقابته وتوجيهه، ولو لم يكن حراً في اختياره إذا كان الفعل الضار قد صدر من التابع في حال تأدية وظيفته أو بسببها)).
وأخذ الفقهاء المسلمون وهم الحنفية بقريب من هذا الاتجاه في حكم أعمال ((تلميذ الأجير المشترك)) فقرروا أن المتبوع يسأل عن عمل تابعه إذا كان هناك عقد إجارة (استئجار) بينهما، وكان الضرر الواقع من التلميذ في حدود العمل الذي يشتركان في إنجازه آلة ومحلاً وكيفية بحسب العرف الشائع، أو كان مأموراً به من المعلِّم (صاحب العمل أو الأستاذ) صراحة أو ضمناً، فإن لم يتحقق هذان الشرطان، فلا ضمان على صاحب العمل.
ومن أمثلتهم على هذا ما يأتي:
لو وقع من يد التلميذ سراج، فأحرق ثوباً من القصارة (كالمصبغة في عرفنا) فالضمان على الأستاذ (المعلم أو صاحب العمل) لا على التلميذ، لأن الذهاب والمجيء بالسراج عمل مأذون فيه، فيكون المعلِّم هو المسؤول، كأنه فعل ذلك بنفسه.
وكذلك لو وقعت مدقة القصار من يد التلميذ على ثوب، فخرقته، فالضمان على المعلِّم، لأن هذا من عمل القصار، فينسب الفعل إليه.
ولم أجد - عدا ما ذكرت عند الحنفية - في فقهنا الإسلامي الذي يأخذ في الضمانات أو الجنايات بمبدأ المسؤولية الشخصية (أو الفردية) لقوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 6/164] ما يجيز تحميل المسؤولية لمالك وسيلة النقل أو سائقها أو متبوعه سواء أكان حكومة أم شركة إلا في حال التقصير أو الإهمال في صيانة وسيلة النقل أو كان التابع غير مؤهل للقيادة، فلا شهادة أو خبرة عنده مثلاً، لأنه يكون متسبباً في إلحاق الضرر بالآخرين، والسائق مجرد مأمور لا يملك المخالفة.
وأدعو السادة أعضاء المجمع للتأمل في هذه القضية، والاجتهاد الجديد فيها، أخذاً بأصل أو قاعدة المصالح، لأن السائق عادة فقير غالباً، ومالك وسائل النقل أو الحكومة أو الشركة المالكة أقوى وأقدر على تحمل تبعة فعل التابع، وقد استقر العرف الحالي بسبب تطبيق القوانين الوضعية المدنية والجنائية في البلاد العربية على أن المتبوع يسأل عن فعل التابع.
هذا مع العلم بأن فقهاء الحنفية قصروا المسؤولية في مثل هذه الحالة على المباشر، أي السائق للسيارة ونحوها، وليس على مالك السيارة، جاء في مجمع الضمانات للبغدادي ما يأتي:
ومن قاد قطاراً فهو ضامن لما أوطأ، فإن وطئ بعير إنساناً، ضمن به الدية على العاقلة، وإن أتلف مالاً فعليه الضمان من ماله، وإن كان معه سائق، فالضمان عليهما.
وفي قاضي خان: لو قاد قطاراً في الطريق، فأوطأ أو القطار أو آخره بيده أو رجله أو صدم، يضمن القائد ما عطب به، وإن كان معه سائق كان ضمان ذلك عليهما.
وفي الجامع الصغير: كل شيء ضمنه الراكب، ضمنه السائق والقائد، إلا أنه يكون على الراكب الكفارة فيما وطئته الدابة بيدها أو رجلها، ولا كفارة عليهما، ولا على الراكب، فيما وراء الإيطاء، وكذا يتعلق بالإيطاء في حق الراكب حرمان الميراث والوصية دون السائق والقائد.
وقد تكون المسؤولية على المتسبب، ومثاله:
من سار على دابته في الطريق، فضربها أو نخسها، فنفحت رجُلاً أو ضربته بيدها، أو نفرت، فصدمته، فقتلته، كان الضمان على الناخس دون الراكب. وعن أبي يوسف: أنه يجب الضمان على الناخس والراكب نصفين.
وإن نخسها بإذن الراكب، كان ذلك بمنزلة فعل الراكب لو نخسها، ولا ضمان عليه في نخسها، لأنه أمر بما يملكه. ولو وطئت رجلاً في سيرها، وقد نخسها الناخس بإذن الراكب، فالدية عليهما جميعاً إذا كانت في فورها الذي نخسها، وإن لم تكن في فورها ذلك، فالضمان على الراكب.