إن قوة الدولة وهيبتها تقاس بمدى احترامها وتقديرها للقضاة، وعدم الزج بهم فى مواقع قد تنقص من هذه الهيبة أو تنال من هذا الاحترام.. ولعل أكثر ما يؤثر فى هيبة واحترام القضاء ما تعمد إليه بعض الحكومات من العبث باستقلال القضاء، سواء بالتدخل السافر فى عمل القضاة أو غل أيديهم عن أداء واجبهم فى تحقيق وإرساء قيم العدالة والمساواة، أو بإيجاد نوع من التماس المرفوض بين السلطة التنفيذية والسلطة القضائية، كمحاولة الربط بين السلطتين لإضفاء نوع من المشروعية الزائفة على بعض أعمال السلطة التنفيذية التى قد تخالف القانون والدستور أو تمثل اعتداء سافراً على الحقوق والحريات، والخاسر الأكبر مما يحدث هو النظام بالتأكيد، فلا هو حافظ على هيبة واحترام قضائه، ولا هو أضفى المشروعية على أهدافه التى حاول أن يستخدم القضاء من أجل الوصول إليها.
ويبقى سيف المعز وذهبه هو الوسيلة القديمة الحديثة التى تستخدمها تلك النظم كوسيلة لترغيب وترهيب القضاة، وصولا لتحقيق تلك الأهداف المرفوضة، التى لا تصل إليها غالبا إلا بوأد الحقوق والحريات السياسية، ولاشك أن ممارسة القضاء دوره الحقيقى وعدم مخالفة القاضى ضميره مهما كانت المغريات أو العواقب، ركيزة أساسية وضمانة فاعلة يمكن من خلالها حماية الحقوق والحريات، فمن غير المتصور أن تطلق يد السلطة التنفيذية فى أخطر الأمور المتعلقة بممارسة الشعب لحقه وحريته الكاملة فى اختيار ممثليه العقلاء الشرعيين من خلال انتخابات حرة ونزيهة، وهو أمر يصعب تصوره إلا إذا خضعت هذه الانتخابات لإشراف قضائى كامل من القابضين على جمر العدالة، فى مجتمع استعر الفساد وتفشى الظلم فى معظم قطاعاته، ويجب أن تعلم السلطة العامة فى أى دولة تحترم القانون والدستور أن القاضى عندما يوكل بالمحافظة على الحقوق والحريات، أو الرقابة على ممارستها، يمثل الضمير النابض للشعب، ولن يقبل أو يرضى بحال أن يقصر فى دوره أو يخالف ضميره، حتى لا يُلحق بنفسه عواراً ويصيب أبناءه وتاريخه بعار، وحتى لا يلوث ثوب العدالة القشيب الذى شرف بارتدائه، وهو أمر يجب أن يكون مرافقا لاستشعار السلطة العامة القائمة عظم مسؤوليتها انطلاقا من المبادئ المستقرة فى نصوص الدستور، الذى لم تدون مواده عبثاً، وأن تحرص على هيبة القضاء وأن تحترم بدورها الحقوق والحريات التى تضمنتها العهود والمواثيق الدولية التى وقّعت عليها بصفتها ممثلة للدولة ونائبة عن الشعب، وأن تعمل على الحفاظ على كرامة المواطنين على قدم المساواة، وأن تضرب بيد من حديد على كل من يتجاوز حدود سلطاته، منتهكا حقوق الإنسان وكرامة المواطن، وأن تعلم أن الوسيلة المرفوضة لا تصلح سبيلا للغاية المنشودة، فما أبشع الظلم، خاصة إذا ما دعت إليه السلطة العامة أو وقفت ترنو إليه دون حراك فاعل يحول دون وقوعه، إذن لاستشرى الظلم بين أطياف الشعب وصار العنف سمة ظاهرة بين أبناء المجتمع.
إن الوضع قد أضحى خطيراً ينبغى أن يجد له المخلصون من أبناء المجتمع ورموز السلطة العامة القائمة حلا يحفظ للقضاء هيبته ولأبناء الشعب كرامتهم، ويحول دون الاعتداء على حقوقهم وحرياتهم من بنى جلدتهم وأبناء وطن واحد يأمل فى مستقبل واعد، وقضاء شامخ يزهو ويفخر بحريته ونزاهته.