بالأمس كانت العمرانية، وقبلها أحداث وفاء قسطنطين، التحرشات الطائفية، وصراعات الصلاة بين المسلمين والمسيحيين تتمدد دون أفق أو كوابح، وكأن الوطن الفسيح في التاريخ والجغرافيا يبدو ضيقا حرجا على استيعاب تنوع بديهي لا مفر من معانقته .
مقلق جدا أن تفقد مصر خبرتها وجدارتها بالتعددية وأن تتجه نحو المجهول، فخلال فترة ليست قليلة نلحظ تحيزا كبيرا نحو الإستقطاب الديني أصاب قطاعات كبيرة من موجهي الرأي العام، استقطابا دفع بالجدل الديني إلى الشارع ليصبح مادة للحوار العنيف والتصادمي بين المواطنين مما يحتم الوقوف لحظة، بل لحظات أمام خبرة وطنية فريدة وملهمة صنعت من النص الديني لُحمة مشتركة بين الأهلين .. وصلاة تتجه إلى الله من أجل الاستقلال .
كان ثورة 19 قد توجت بقائد وهو سعد زغلول وجماعة وطنية تسعى للاستقلال والدستور، وفي أثناء توجه الوفد للتفاوض مع لجنة ملنر والسفر إلى لندن أحب الزعيم أن يشاور الأمة واستبيان رأيها في خيار السفر، واقترح علي ماهر وعبد العزيز فهمي بحسب الدكتور وليم سليمان قلاده أن تكون استشارة الأمة بأن يكتب أمير الشعراء أحمد شوقي دعاء يتلى في المساجد والكنائس ليكلل الله جهود الوفد بالنجاح في مفاوضاته في لندن.وحدث ذلك بالفعل، ومنحت الأمة سعدا توكيلا آخرا ممهورا بالصلاة يدعم سفر الوفد إلى لندن .
وترنمت مساجد وكنائس مصر بالدعاء، وارتاح المد الديني للوطني، والجامع العربي الاسلامي للمصري ، وأهم خصيصة لثورة 19 أنها كانت ثورة زخم من الخطابات الوطنية والفكرية، كانت ثورة وسياقا ايجابيا، وفر اطارا للتلاقي والتكامل بين التيارات الفكرية والدينية.
كان الدعاء حافلاً بالتناظر بالقيم الدينية والطقسية بين المسلمين والمسيحين، ولكنه داخل إطار هدف واحد جامع وهو استقلال الأمة،إنها صلاة من أجل الحرية.فالبشر هم البشر في سياق التصارع ، وهم ذات البشر في سياق التعاون، والايمان كالطاقة النووية لها استخدامها في مجال النهايات الحزينة ، ولها توظيفها من أجل تخفيف الألام .كما وضح الدعاء تقاليد النخبة المصرية التاريخية وموقفها المحترم من الممارسات الدينية ، حتى لو كان بعضهم علمانيا قانع بمحدودية الدور الديني في الحياة العامة .
بالتالي كان من الطبيعي أن ينعكس هذا التوجه الوطني على تناولات الاعلام فعكس الصورة الوطنية بقوة ورصانة هنا أنقل هذه الخلاصات الصحفية من الدكتور قلاده حيث وصفت صحيفة الوطن الدعاء بأنه " ثقة بالله وتوكل عليه تعالى، وما أحوجنا الى التسلح بهما في قضيتنا ". وأكدت صحيفة الأهرام أن الإيمان بالله مصدر النجاح في الدنيا، وأساس التسامح الديني والوحدة الوطنية. وقالت إن الفرد عندما يضرع الى الله لخير شعبه كله " يتعلم المساواة ويتعلم الوطنية".
وأوضحت صحيفة مصر أن " نجاح قضيتنا مكفول بعناية الله، وبقوة الايمان وباتحاد الأمة المتين في المطلب والحق العادل، وبسياسة نوابغنا الذي يستمدون قوتهم من التفاف الامة حولهم ".
وذكرت صحيفة وادي النيل قوله تعالى " ولا تكونوا كالذي نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون " ثم قالت " إن من حكمة الوفد في عمله أن دعانا الى إقامة الصلوات الجامعة في أطهر البقاع وأليق المواطن بالعبادة، حتى تجدد بذلك الشعور العام، ونظهر في هيئة التضامن الروحي الذي يزيد قلوبنا صفاء وعقائدنا قوة وثباتا. وذلك ما تأمرنا به الأديان وترضاه لنا المدنية الصحيحة ".
وفي اليوم التالي لتلاوة الدعاء الموحد في المساجد والكنائس وصفت صحيفة وادي النيل اقبال أفراد الشعب من الأقباط والمسلمين "بكثرة غير عادية " على دور العبادة لتلاوة الدعاء الإلهي وبينت الصحيفة كيف تم الربط بفضل الدعاء بين اتحاد المصريين في طلب العطف الإلهي، واتحادهم في المبدأ الوطني . وأكدت بذلك نجاح فكرة الدعاء الواحد .
هل نلتفت إلى ما تطرحه تلك الصلاة من خبرة في تحول الايمان إلى طاقة للخدمة الفعالة عبر ابداع وطني قائم على تمكين الأفراد من تسخير طاقاتهم واكتشافها لتحقيق أفضل النتائج؟؟ هل نلتفت إلى خبرة فتح مسارات القوى الوطنية والدينية لتجتمع تلك الطاقات وتتحول مقدراتها إلى"كتلة حرجة " تدفع نحو التغيير؟؟
هل نبصر كيف يتحول "فائض التدين" إلى "عائد في الوطنية"..وكيف يتجه العبء الطقسي الشكلاني التديني إلى رصيد إنتاجي ؟؟ والسجال الديني إلى خدمة الدينية من أجل الوطن؟؟
كتب أمير الشعراء دعاء مصر المتشوقة لاستقلالها، وانسكبت كلماته في المحاريب والمذابح، تبلل لحى النساك والمصلين، كتب صلاة من أجل العطف الإلهي على الوطن.. هل نتذكر أدعيتنا الحاضرة.. ماذا ترفع إلى الله ؟؟ ما هي طلبات كل طرف وبنوده الصاعدة الى الملكوت ؟؟ ما الدعاء الذي يجب أن يصوغه المصريون في عام 2010؟؟