منذ فترة قضاة الزمن الجميل عن عصر شوامخ القضاة العظام أمثال ممتاز نصار ووجدي عبد الصمد ويحيي الرفاعي الذين كانت أحكامهم ومواقفهم ومبادئهم منارا يسعي كل من اقترب منه إلي التزود به.. وبنفس القدر نقباء عظام لنقابة المحامين أمثال: عبد العزيز الشوربجي ومصطفي البرادعي وأحمد الخواجة.
وفي هذا الزمن الجميل تشاهد كيف تدار (العدالة بجناحيها من رجال عظام بسيمفونية رائعة يفرضها معا القضاة والمحامون واعضاء النيابة.
درس من النيابة
وحين قبض علي قيادة حزب التجمع بالمحافظة في أحداث 18 و19 يناير 1977 وتم اقتيادهم ليلا إلي مبني مباحث أمن الدولة أرسل في طلب اعضاء النيابة وهم المرحوم حمدي يوسف وعلي بدوي وهناء المنسي لمباشرة التحقيق معهم- وحينما حضروا اتصلوا برئيس النيابة سيد العشري وهو من عظماء هذا الزمن وكان مقيما بالمحلة للاستئذان في مباشرة التحقيق- فرفض أن يتم التحقيق في مبني مباحث أمن الدولة وأمرهم بمغادرة المبني فورا والعودة إلي بيوتهم ليكونوا بسراي المحكمة في الصباح- وكان درسا من أعضاء النيابة ورئيسهم لمباحث أمن الدولة- وحينما قرروا الإفراج عنهم من سراي النيابة انسحب الضباط وكان من بينهم الرائد عادل لبيب محافظ الإسكندرية الآن- وهم في ذهول غير مصدقين أن شجاعة اعضاء نيابة كفر الشيخ تصل إلي حد أن تكون النيابة الوحيدة من بين نيابات مصر التي افرجت عن قيادة حزب التجمع بكفر الشيخ دون باقي الزملاء في سائر المحافظات. وإن كان القضاء قد افرج عنهم بعد ذلك.
وحين أقول إن المحاماة مهنة حرة تشارك السلطة القضائية في تحقيق العدالة وفي تأكيد سيادة القانون وفي كفالة حق الدفاع عن حقوق المواطنين وحرياتهم- ويمارس مهنة المحاماة المحامون وحدهم في استقلال ولا سلطان عليهم في ذلك إلا ضمائرهم وأحكام القانون - وهذه العبارات ليست من عندي- فهذا ما نصت عليه المادة الأولي من قانون المحاماة بالحرف الواحد.
كذلك أفرد القانون للمحامين حصانة أوردتها المادة 54 بمعاقبة كل من تعدي علي محام أو أهانه بالإشارة أو القول أو التهديد أثناء قيامه باعمال مهنته أو بسببها بالعقوبة المقررة لمن يرتكب هذه الجريمة ضد أحد أعضاء هيئة المحكمة.
وقد قدرت النيابة والقضاة في هذا الزمن الجميل هذا النص باعتبار أن المحاماة شريكة للسلطة القضائية في تحقيق العدالة- فكانت تطبقه علي كل من يعتدي علي المحامي أثناء العمل وبسببه وتحيله إلي المحاكمة الجنائية.
ويذكر ان محاميا صغيرا في فترة السبعينيات في احدي شركات القطاع العام اعتدي عليه مدير هذه الشركة وهو في مكتبه أثناء العمل وحين أبلغ النيابة العامة بالواقعة اسرع هذا المدير في محاولة لاسترضائه ولم يفلح فأتي يشهد لنفي التعدي إلا أن وكيل النيابة المحترم مصطفي عبد الفتاح محجوز (المستشار الآن) حقق بنفسه ورغم سماع شهود النفي أحال المدير إلي المحاكمة الجنائية وطبق نص المادة 54 من قانون المحاماة- وكان يوما مشهودا في تاريخ القضاء حينما قضي رئيس المحكمة أشرف الناضوري بحبسه وكان قاضيا من قضاة الزمن الجميل.
وفي هذا الزمن أيضا حينما كنت تتوجه إلي مكتب عضو النيابة في طلب ما - يأمر بادخالك فورا ويقف مرحبا بك طالبا منك الجلوس قبل أن تبدي طلبك.
وكان القانون كما ينص الدستور هو الأساس الوحيد لمشروعية النظام وكانت الحكومة قدوة في الامتثال للقاعدة القانونية التي تصدر من مجلس نواب منتخب انتخابا حقيقيا يمثل إرادة الناخبين- فكان رجال القانون هم قضاة المجتمع من مختلف الاتجاهات والانتماءات الفكرية في هذا العصر.
والسبب فيما يحدث الآن بين القضاة والمحامين هو تجاهل القانون في مجتمع يسوده منطق القوة في كل أموره - فلا تتوقع أن يحدث غير الذي حدث- وهذا أمر ليس فقط بين القضاة والمحامين - غاب القانون وأصبح النظام الحاكم لا يقوم إلا علي قانون الطوارئ وأحكامه العرفية السيادة فيها للتعذيب وانتهاك حقوق الإنسان وإهدار آدميته والحط من شأنه - وهو نظام يمارس العنف ويحرض عليه - ولا أمل في أي حل إلا في إعادة الاعتبار لدولة القانون.
النظام الذي اسقط تيار الاستقلال في نادي القضاة الذي كشف عن تزوير الانتخابات وهو الذي اسقط التيار القومي لنقابة المحامين وابعدها عن رسالتها القومية وسلمها إلي الحزب الوطني0
أما الآن حينما يصبح عدد المحامين أكثر من 450 ألف محام 90% منهم غير مؤهلين لتأدية رسالة المحاماة كما كانت وكان يجب الا يدخلوا النقابة إلا بدبلوم عال في القانون أما زملاؤهم من اعضاء النيابة فقد عينوا بالواسطة والمحسوبية من ابناء المسئولين في هذا النظام الذي ابتلينا به والاغلبية منهم يعينون بالتوريث بعد أن أصبح عرفا ملزما بين مختلف الفئات الحاكمة - فأصبح عضو النيابة الذي يتخرج في الكلية بتقدير مقبول يعين في النيابة مباشرة وهو غير مؤهل لهذا المنصب- والمحامي له العذر حين يشاهد زميله في ذات الكلية وذات الدفعة وبمجموع اقل وقد أصبح وكيلا للنيابة- يدين له كل من حوله أفرادا وجماعات بالسمع والطاعة- وبالتالي يتعامل مع زملائه المحامين من مكانة عالية- إلي درجة يري نفسه فوق البشر بل فوق القانون.
مشاجرة خلقت أزمة
أما الأزمة الأخيرة بين جناحي العدالة مجرد مشاجرة بين محام وعضو نيابة تعدي كل منهما علي الآخر- وبنفس القدر من الاعتداء . لم تكن إلا نتيجة طبيعية للداء الذي استشري في أوصال هذا الوطن - فحين يحيل النائب العام المحامين إلي محاكمة عاجلة بتهمة التعدي علي وكيل النيابة- دون أن يتخذ ذات الموقف ضد وكيل النيابة الذي بدأ بالاعتداء فقد عالج الأزمة بما لم ينص عليه في القانون ويلزمه في هذه الحالة بالمادة 64 من قانون الإجراءات القانونية وتقابلها المادة 629 من تعليماته للنيابة التي تلزم النيابة في مثل هذه الواقعة وهي بين خصمين شريكين في تحقيق العدالة أن تحيل الدعوي إلي رئيس المحكمة الابتدائية لندب أحد قضاة المحكمة لمباشرة التحقيق ليكون أكثر ملاءمة بالنظر إلي ظروفها الخاصة والنيابة لا يصح أن تكون خصما وحكما- فكان أسرع إجراء اتخذه النائب العام في تاريخه بإحالة المحامين إلي المحاكمة خلال 48 ساعة ليقطع الطريق علي أي محاولات أخري.
هذا الحكم ولد احساسا عميقا لدي قطاع واسع من فئات المجتمع وليس المحامين وحدهم بأن الحصانة المشروعة للسلطة القضائية من أجل قيامها بوظيفتها في تحقيق العدالة تحولت إلي سلطة للاعتداء عليها0
ويبقي سؤال.. ماذا فعل النائب العام بعضو النيابة الذي بادل المحامين الاعتداء. وهذا هو لب الأزمة.