جريمة تعذيب واحدة تكفي..!
بقلم: مكرم محمد أحمد
ما حدث في الإسكندرية للشاب خالد محمد سعيد(29 عاما) الذي تضاربت الروايات حول أسباب مقتله, ويقول شهود عيان كثيرون رأوا وقائع الحادث التي جرت علي رءوس الأشهاد في شارع مدحت سيف اليزل في منطقة ذات كثافة سكانية عالية من حي كليوباترا.
إنه مات بسبب الضرب المبرح والقاسي من جانب اثنين من المخبرين من قسم شرطة سيدي جابر, طالباه في أثناء وجوده في مقهي للإنترنت بالخضوع للتفتيش إلا أنه رفض واستمر في مقاومتهما, لكنهما شداه خارج المقهي الي مرأي ومسمع جمهور واسع من سكان المنطقة, ثم ألقياه علي وجهه علي أولي درجات سلم العقار واستمرا يوجهان إليه اللكمات في وجهه ورأسه الذي ارتطم عدة مرات بدرج السلم لمدة تقرب من25 دقيقة وهو يصرخ مستغيثا حرام عليكم أنا باموت دون أن يجرؤ أي من المتجمهرين أمام مدخل العقار علي التدخل بسبب تهديدات المخبرين الي أن فقد الشاب الوعي, بينما الدماء تسيل من أنحاء متفرقة من وجهه وينزف من فمه ثم حملاه جرا داخل سيارة الشرطة التي غادرت المكان لتعود بعد عشر دقائق ليلقيا الشاب عند مدخل العقار وقد لفظ أنفاسه.
بين شهود الحادث حسن مصباح صاحب مقهي الإنترنت الذي أكد أن المخبرين دخلا الي المقهي بعد العاشرة والنصف مساء, بعد خمس دقائق من دخول الشاب خالد الي المقهي, أمسكاه بعنف وهما يصيحان في وجهه: فين الحاجة اللي معاك وهو يرد عليهم انتو مين, لكن صاحب المقهي طلب الي المخبرين أن يصحبا خالد الي خارج المقهي حرصا علي سمعته ورزقه بعد أن تجمهر عشرات الناس أمام المقهي, بينما المخبران يصيحان في وجه الجميع محدش له دعوة كل واحد يبقي في حاله.. بين شهود الحادث أيضا الحلاق أيمن عبدالله الذي يقع محله الي جوار مقهي الإنترنت الذي أكد أنه خرج علي صياح خارج محله ليجد اثنين من المخبرين يعرفهما جيدا يمسكان بالشاب خالد وقد تم تقييد يديه الي خلف ظهره ويحاولان تفتيشه ويضربانه بقسوة بالغة, وعندما سأل الحلاق المخبرين عن أسباب ما يجري رد أحدهما عليه: خليك في شغلك ملكش دعوة, لكن أهم الشهود بالقطع هو محمد نعيم بواب العقار الذي دخله المخبران وهما يقتادان الشاب خالد, وتخلص رواية البواب محمد نعيم في أن المخبرين ضربا خالد في كل جزء من جسمه, في رأسه ووجهه وخبطوا رأسه في السلم جامد قوي وهو يصرخ: حرام عليكم أنا باموت وكان أن رد أحدهما عليه: أنت كده كده ميت, ولما فقد الشاب وعيه طلبوا من البواب أن يرش وجهه بماء بارد ثم بماء مالح جاء به من المقهي المجاور, لكن البواب كان يعرف أن الشاب مات بالفعل بعد أن نزف دماء كثيرة من رأسه وفمه جعلته يمسح السلم مرتين.
تلك هي روايات أهم شهود العيان كما سجلتها تحقيقات النيابة ومقابلات الصحفيين واستقصاءات جماعات حقوق الإنسان التي تختلف تماما عن رواية الشرطة التي تخلص طبقا للبيانات الأمنية التي صدرت عن الحادث, في أن فردي شرطة من قوة مباحث قسم سيدي جابر شاهدا الشاب خالد خلال ملاحظتهما للحالة الأمنية في أحد شوارع المنطقة المحكوم عليه والمطلوب لتنفيذ حكمين في قضيتين جنح سرقات وحيازة سلاح أبيض, وهو يسير برفقة أحد أصدقائه, ولدي توجههما لضبطه بادر المذكور بابتلاع لفافة تبين بعد ذلك أنها تحوي مادة مخدرة مما ترتب عليه حدوث اختناق أسفر عن وفاته أثبته الطبيب الشرعي, ولا يذكر البيان الأمني اسم الشارع أو الصديق ولا يأتي علي ذكر مقهي الإنترنت الذي بدأ منه الحادث ولا يتحدث عن سماع شهود إثبات أو نفي.
وكما تختلف روايتي الشرطة وشهود العيان حول وقائع ما حدث تختلف الروايات حول شخصية المجني عليه, الذي تعتبره الشرطة, صاحب سوابق عاطل يتعاطي المخدرات وهارب من تنفيذ أحكام في عدد من القضايا, في حين يراه الجيران مجرد شاب عادي لا يعرف عنه سوء الخلق حاصل علي بكالوريوس تجارة يهوي صيد السمك وإصلاح أجهزة الكمبيوتر تشكو أمه من أنه يدخن الحشيش أحيانا, هاجر معظم أشقائه الي الولايات المتحدة ويعيش مع والدته في عقار تملكه الأسرة في الشارع نفسه.
عكس هذا الاختلاف نفسه في المعالجات المتباينة للحادث من جانب الصحف القومية والحزبية والخاصة, الصحف القومية حرص معظمها علي التمسك بالرواية التي وردت في البلاغات الأمنية دون محاولة تمحيص رؤية شهود العيان, علي حين سعت معظم الصحف الخاصة والحزبية تؤازرها جماعات حقوق الإنسان الي تصوير الحادث في إطار سياسي يتحدث عن شهيد قانون الطواريء, الذي تم التخلص منه لأنه كان يعرف الكثير مما يجري داخل قسم شرطة سيدي جابر, دون محاولة تمحيص الوقائع التي أوردتها بيانات الداخلية التي تتحدث عن سوابق جنائية للشاب, الأمر الذي زاد من حيرة الرأي العام بين روايتين متناقضتين ليس بينهما شيء مشترك, ومع افتراض صحة الاتهامات والوقائع التي أوردتها البيانات الأمنية فإن ذلك لا يبرر العدوان الفظ للمخبرين علي المجني عليه التي أجمع علي وقائعه شهود العيان , والمؤسف أن المجلس القومي لحقوق الإنسان الذي كان يمكن أن يقدم رؤية موضوعية للحادث تساعد علي إجلاء الحقيقة التزم الصمت برغم أنه أرسل بعثة تقصي للحقائق الي الاسكندرية حققت الحادث علي أرض الواقع واستمعت الي عدد من شهود العيان, كما استمعت الي ضباط كبار بينهم مأمور قسم سيدي جابر, ومع الأسف فإن غياب المجلس القومي لحقوق الإنسان أو تغييبه, قصدا أو صدفة, أدي الي تكريس صورة أحادية الجانب تسيطر علي الإعلام العالمي, تصور أجهزة الأمن المصرية علي نحو غير إنساني لأنها تعادي حقوق الإنسان وتمارس التعذيب علي نحو منهجي في السجون وأقسام الشرطة وأماكن الاحتجاز, برغم أن الأحداث فردية في معظمها وبرغم الجهد الذي تبذله الشرطة لتعزيز ثقافة حقوق الإنسان في أوساط ضباط الشرطة, وبرغم المحاكمات الجنائية والتأديبية التي تجري لعشرات الضباط 38 قضية جنائية و27 قضية تأديبية وبينهم أصحاب رتب عالية من درجة عقيد صدرت ضدهم أحكام بالحبس مع الشغل لمدة خمس سنوات, وبرغم توسع النيابة العامة في التفتيش المفاجيء علي أماكن الاحتجاز الذي يشمل الآن كل السجون وأماكن الاحتجاز في الأقسام في جميع المحافظات وبرغم أن النيابة العامة تحقق الآن في جميع البلاغات التي ترد إليها بخصوص التعذيب.
لكن الصحيح أيضا, أن جرعة التعذيب لاتزال تمارس في حالات عديدة داخل أقسام الشرطة, وأن بعض القائمين علي أجهزة البحث الجنائي لايزالون يمارسون صورا من القسوة الفظة أدت الي وفاة سبعة أشخاص داخل أقسام الشرطة وفي أماكن الاحتجاز العام الماضي, صحيح أن الرقم هبط نوعا ما لأن المتوسط كان قبل عامين12 شخصا, لكن ما ينبغي أن نعرفه أن جريمة تعذيب واحدة تكفي لتلطيخ سمعة وطن بأكمله, في عصر أصبحت فيه حقوق الإنسان مثل الماء والهواء لا يحق لأحد أن يمسها خارج إطار حدود القانون, ولا يشفع للداخلية في أي من هذه الحوادث أنها مثقلة بالأعباء أو أن أجهزتها تتعامل كل يوم مع20 ألف مواطن بينهم الصالح والطالح, أو أن بعضا ممن يتعرضون للتعذيب هم من معتادي الإجرام الذين لا يصلح معهم سوي الإكراه لإلزامهم الاعتراف بالحقيقة, لأن الأصل والأساس هو احترام حقوق كل المواطنين وتقديس حقهم في الحياة الذي ينبغي أن يكون التزاما مطلقا في عنق رجل الشرطة يتساوي مع التزامه بآداء الواجب, لأن واجب رجل الشرطة الأول هو الحفاظ علي أمن المواطن وحماية حياته وليس إزهاقها, خاصة أن الشرطة هي أكثر أجهزة الدولة احتياجا الي عون الجمهور المصري لأنه مهما كثرت أعداد رجال الشرطة فإنها لا تستطيع أن تضع جنديا في كل شارع وفي كل حارة وفي كل عطفة كي تحفظ أمن المواطنين, وكلما كبرت علاقات الثقة بين المواطنين والشرطة زاد دعم المواطنين لأجهزتها كي تتمكن من إنجاز واجباتها علي أكمل وجه.
وانطلاقا من هذه الحقيقة, يصبح من مسئولية وزير الداخلية المباشرة احتراما لحقوق المواطن المصري, وحفاظا علي صورة مصر في الخارج, وحرصا علي أن تحظي الشرطة المصرية بالمكانة التي تليق بتاريخها الوطني استئصال جريمة التعذيب وقطع دابرها من كل أجهزة الشرطة في غضون فترة زمنية محدودة, وأظن أن الوزير يستطيع إنجاز هذا الهدف دون الإخلال بمهام الشرطة الأمنية, خاصة مع تقدم أدوات الاستدلال وتجهيزات المعلومات التي تمكن الشرطة من معرفة الحقيقة دون حاجة لاستخدام القسوة.
وأعتقد أن البداية الصحيحة التي تؤكد جدية سعي الداخلية لاستئصال جريمة التعذيب من قاموسها لأنها أصبحت عارا وشنارا, تكون في سد الثغرات العديدة في عدد من التشريعات القائمة التي تتيح إفلات المتهمين في جرائم التعذيب من العقاب, والالتزام بالتعريف الصحيح الذي اصطلح عليه العالم لجريمة التعذيب التي تلتزم به جميع المواثيق الدولية والهبوط بأرقام الذين يفقدون حياتهم في أماكن الاحتجاز والسجون الي حدود صفر, وهو هدف سهل التحقيق قابل للإنجاز.
إن حقوق الإنسان في العالم أجمع تعلو وتتطور الي حد أصبح عدم الالتزام بتحقيقها يمثل عارا وشنارا للمجتمع والدولة, فدعونا ننفض عن أنفسنا هذا الجرم ونستأصل جرائم التعذيب من كل أجهزة الشرطة, لأن المصريين أكثر إنسانية وتحضرا من أن يدمنوا تعذيب بعضهم بعضا.
وتبقي ملاحظتان أساسيتان, أولاهما أن في الشفافية الكاملة المخرج الصحيح من أية مضاعفات يمكن أن تحدث نتيجة حادث فردي يقع صدفة أو قصدا يسيء الجميع تفسيره وفهمه, لأن أحدا لم يقدم لهم المعلومات الصحيحة أو يستثمر البعض ظروفه لأهداف سياسية محدودة, وفي أجهزة الشرطة في العالم أجمع تقع بعض هذه الجرائم من أفراد يتجاوزون حدود صلاحياتهم أو تتحول علاقاتهم مع بعض عصاة القانون الي نوع من الثأر الشخصي, لكن ما يجعل الحادث فرديا هو إعلان وقائعه علي نحو موضوعي بدلا من الإسراع الي ابراء الذمة لأن الشرطة مؤسسة وطنية كبيرة يستحيل اختزالها في اثنين من المخبرين ارتكبا خطأ جسيما, والملاحظة الثانية أن تعرف الحكومة المصرية أن المجلس القومي لحقوق الإنسان هو جزء من الدولة المصرية يهمه أمن مصر واستقرارها كما يهمه سمعتها وكرامتها, ولو أن الحكومة وعت هذا الدور لكان من واجبها أن تطلب الي المجلس تحقيق الوقائع وإعلانها علي الملأ, لأن إعلان الوقائع علي نحو موضوعي يزيد مصداقية الدولة ويسد الأبواب علي تخريجات وتفسيرات عديدة خلطت بين الوقائع والرأي السياسي من مصلحتها أن تضخم ما حدث.